مر الإعصار ولكن آثاره باقية

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الخميس 10 نوفمبر 2016 - 9:25 ص بتوقيت القاهرة

أكتب هذه السطور قبل أن تعلن النتائج النهائية للانتخابات الرئاسة الأمريكية. واقع الأمر هو أن اهتمامى فى هذه الأيام الأخيرة من الحملة كان مركزا على مستقبل حال الولايات المتحدة كأمة ودولة ونظام سياسى بعد حملة انتخابية غير عادية وليس على فوز هذا الرجل أو تلك السيدة وتداعيات هذا الفوز. أدرك جيدا أن كلا منهما يستحق الاهتمام كمرشح للرئاسة ثم كرئيس، ولكنى أدرك أيضا وجيدا أن ما كشفت عنه أو تسببت فيه هذه الحملة الانتخابية المثيرة للجدل من أمور وقضايا واستقطابات هو ما يستحق فى الواقع التركيز عليه والاهتمام به. رأيت، بل رأى أغلبنا كمراقبين، كيف أن تفاصيل الساحة الأمريكية فى هذه اللحظة التى نكتب فيها ليست كالتفاصيل التى كانت أمامنا، وربما أمام المرشحين أيضا، ليلة قبولهما الترشيح من حزبيهما. أضيف أن سنوات قد تمر علينا قبل أن نحدد بالدقة اللازمة الجهة المسئولة عن انكشاف تفاصيل عديدة، أكان المجتمع الأمريكى جاهزا ومشحونا بالرغبة فى التغيير ومتمردا على المؤسسة الحاكمة فأفرز شخصية دونالد ترامب كأداة تفجير، أم كان التناقض الجذرى بين أفكار وسياسات المرشحين وأجواء الحملة الانتخابية وسوء تصرف قيادة الحزب الجمهورى، أم كانت مسيرة العولمة قد وصلت إلى نقطة تستدعى التوقف عندها وتغيير المسار بعدها؟... أعود إلى تفاصيل ما انكشف أمامنا.


***
أولا: لاحظت، ولاحظ البعض منا، أن اضطرابات الهوية والانتماء فى صفوف قطاعات عريضة فى الشعب الأمريكى أوسع وأعمق مما كنا نعتقد. لم يخطر على بالى يوما أن أرى فقراء أمريكا والعاطلين فيها ونسبة كبيرة من المضطهدين اقتصاديا يقبلون أن يقودهم رجل هو من عتاة طبقة أغنى الأغنياء فى أمريكا. كون هؤلاء ينتمون إلى السلالة البيضاء التى يبجلها المرشح ترامب لا تبرر سلوك هؤلاء الفقراء وانقيادهم لبليونير لم يعرف عنه فى السابق تعاطفه مع أفراد الطبقة الكادحة أو مع مظالم العاطلين والمحرومين أو حتى مع مشاعر النساء اللائى كان يتاجر بجمالهن ورشاقتهن.


***
لفت الانتباه أن يحدث هذا الانقياد غير المفهوم فى وقت استطاعت فيه هويات أخرى تمكين انتماءاتها وتعزيز مكانتها فى المجتمع الأمريكى. ففى أقل من عقدين وتحت تأثير مؤكد من العولمة وسياقاتها وصل إلى البيت الأبيض رجل أسود وتعامل المجتمع بأناقة وتحضر مع أول ترشيح نسوى للمنصب ذاته. لذلك لا يخالجنى شك كبير فى أن هاتين الإضافتين فى تاريخ التطور الاجتماعى الأمريكى تتشاركان فى مسئولية تمرد الرجل الأبيض الأمريكى وصحوة حركات التمييز العنصرى ومشاعره البدائية. حدث فى الوقت نفسه، أى خلال عقدين لا أكثر، أن تمكنت الهوية «الهسبانية» من إثبات وجودها وفرض لغتها لغة ثانية فى ولايات عديدة. حدث أيضا وبسبب تطورات خارجية سلبية أن برزت وبقوة فى الساحة الأمريكية الهوية الإسلامية، والمثير للانتباه أن أفراد المسلمين لم يكونوا هم الذين استفادوا من بروزها بل خصومها وبخاصة التيار الشعبوى منذ أن تولى قيادته دونالد ترامب خلال الحملة الانتخابية. هكذا تكون الهوية الإسلامية قد ولدت تحت الحصار ومقدر لها أن تبقى هكذا لأمد غير معلوم.


برزت أيضا وبشكل مفاجئ، وربما صادم للكثيرين فى دول الغرب، ملامح تيار شعبوى اشتراكى الهوية، تولى قيادته المرشح الديمقراطى السيناتور بيرنى ساندرز. أن يظهر هذا التيار وبهذه القوة وأن يجد من يقوده متمردا هو الآخر على المؤسسة السياسية الحاكمة لتطور بالغ الأهمية. لا يقلل من أهمية هذه الظاهرة المباغتة، ظاهرة ساندرز، انسحابه المبكر من ساحة الحملة الانتخابية مقابل تنازلات قدمتها قيادة الحزب الديمقراطى، فقد أثبت التيار وجودا كحركة شعبوية يسارية لن يكون تأثيرها أقل من تأثير الحركة الشعبوية الأخرى التى خرجت من القمقم لتبقى، ألا وهى تيار التمرد اليمينى الذى يقوده ترامب. أتصور أن السنوات القليلة القادمة سوف تشهد احتلال اليسار لقيادة الحزب الديمقراطى أو نزوح اليساريين عن الحزب وانتقالهم إلى الشارع كحركة شعبوية.


***
ثانيا: فيما أرى، لن يكون للتيارين الشعبويين تأثير مباشر أو قوى على مسارات السياسة الخارجية الأمريكية رغم أنهما نابعان من حال تمرد على المؤسسة الحاكمة فى الولايات المتحدة. فمثلا عندما تنادى حركة ترامب باستعادة عظمة أمريكا فإنها لا تقصد انتهاج سياسات عدوانية فى الخارج أو نشاط أوفر بل على العكس يطالب ترامب بعدم التدخل فى الشئون الداخلية للدول الأخرى ويرفض فرض الديمقراطية أو دعمها وينتقد تمويل حركات حقوق الإنسان ولم يخف تشجيعه للحكومات الديكتاتورية فى العالم النامى. ما يقصده ترامب باستعادة عظمة أمريكا هو استعادة أسبابها، أى مصادر قوتها الداخلية والتخلص من عناصر ضعفها مثل كثرة المهاجرين وهيمنة ضغوط قوى التجارة الحرة ومصالح المستثمرين الأمريكيين العاملين فى الخارج وأنصار حرية انتقال العمالة وتبديد نفوذ أمريكا على دعم قضايا ليست حيوية لأمريكا.


على الناحية الأخرى لم يعرض ساندرز فى برامجه الانتخابية التى حظيت بدعم نسبة كبيرة من الشباب أفكارا جديدة تمس بشكل مباشر منظومة السياسة الخارجية. ما طرحه ساندرز يتعلق فى الحقيقة بأزمة تسببت فيها الرأسمالية العالمية خلال مرحلة انحدارها الأخلاقى والتنظيمى والعقائدى. إنها أزمة اللامساواة فى الدخول والامتيازات والحقوق، أو بمعنى آخر هى الأزمة الناتجة عن الفجوة المستمرة فى الاتساع منذ انطلاق ظاهرة العولمة فى سياقها الجديد فى الثلث الأخير من القرن العشرين. لا يخالج أحدا فى داخل مجتمعات أمريكا الأكاديمية أو خارجها الشك فى أن اللامساواة هى التهديد الأعظم الذى سوف يواجه الرئيس الجديد للولايات المتحدة، لأنه العنصر الذى سوف تجتمع عنده أو تصدر منه مختلف الأزمات الاجتماعية ومنها أزمات الهوية والانتماء والمواطنة وحرية التعليم والهجرة والبطالة وغيرها، ولأنها أيضا العنصر الذى تعتمد عليه جهود استعادة عظمة أمريكا باعتبارها قلعة الرأسمالية العالمية وحامية حماها، كما يعتقد ترامب ومختلف تيارات اليمين.


***
ثالثا: لا خلاف على أن المؤسسة الحاكمة فى أمريكا سوف تخرج من هذه الحملة الانتخابية أضعف وأقل نفوذا ولكن ليس إلى الحد الذى يمحو قدرتها على المحافظة على ثنائية التغيير والاستقرار فى أداء النظام الأمريكى. لا أتصور مثلا أن يحول شىء دون أن تواصل هيلارى كلينتون، كرئيس للبلاد، مسيرة باراك أوباما فى الحكم. هذا هو ما تدربت عليه وهذا هو ما تجيده. ذكرتنى الصديقة ماجدة شاهين، المتخصصة أكاديميا ومهنيا فى شئون النظام الأمريكى، بالعلاقة التى تربط بين الدور الذى لعبته هيلارى وهى وزيرة خارجية للتوجيه بقصف ليبيا بالطائرات الأمريكية والأطلسية وبين سلبية موقف زوجها السيد بيل كلينتون كرئيس للجمهورية خلال أزمة رواندا حين وقفت أمريكا متفرجة على جريمة إبادة راح ضحيتها عشرات الألوف. تدخل هيلارى فى ليبيا لا يبرره بأى حال ضميرها المعذب بسبب خطأ أو تقاعس ارتكبه زوجها. مع ذلك تظل القصة مهمة لمن يريد أن يتوقع سلوكيات تمارسها السيدة هيلارى خلال رئاستها إن هى حققت الفوز.


من جهة أخرى، أستطيع أن أستبعد تحولا جذريا أو هائلا فى مسيرة السياسة الخارجية الأمريكية فى ظل العهد الجديد. أستبعده لأننى أختلف مع القائلين بأن باراك أوباما أهان عظمة أمريكا وأنه مسئول عن خفض مستواها ومكانتها بالسياسات الخارجية التى اختارها. ما السياسة الخارجية لدولة من الدول سوى محصلة توازن القوى فى داخل الدولة كما فى خارجها فى فترة بعينها أو خلال عهد بعينه. الزيادة أو النقص فى عناصر القوة الضرورى توفرها للسياسة الخارجية هى التى تحدد درجة إيجابية ونشاط هذه السياسة وليس مزاج أو شجاعة أو تردد صانع السياسة. أرى أن عنصرا مهما من عناصر القوة الأمريكية لم يتغير إلى الحد الذى يسمح للرئيس القادم بإجراء تغيير جذرى أو هائل فى السياسة الخارجية.


***
ومع ذلك أستطيع أن أتوقع تصعيدا «شعبويا» أمريكيا فى العمل المناهض للعولمة، يصحبه تصعيد أقل حدة فى الدول الغربية الأخرى ويقابله رغبة مستمرة للتمسك بالعولمة فى الدول النامية، وإن بحرص وانتقاء. أستطيع أيضا أن أتوقع أن تواجه النخبة الحاكمة فى أمريكا مشكلات صعبة. لا يجوز لنا أن نهمل أو نتجاهل أن المؤسسة الحاكمة، وكانت القلعة التى حافظت على نظام عتيد كالنظام الأمريكى طوال قرون عديدة، قد أصابها أخيرا الوهن بسبب التحولات الكبيرة التى طرأت على المجتمع. مثال بسيط أشتقه من أحداث الحملة الانتخابية وأطرحه للتدبر والتأمل. رجل من خارج النظام ومن خارج المؤسسة الحاكمة استطاع بأمواله الخاصة أن يتحدى هذه المؤسسة الحاكمة ويهدد استقرار النظام السياسى ويهين الدستور الأمريكى الذى هو بمكانة «إنجيل» أمريكا المدنى وكاد يصل إلى منصب الرئاسة. أو لعله وصل بالفعل بعد أن سلمت هذه السطور للطباعة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved