رفض الطائفية ومستقبل النظام السياسى فى لبنان والعراق

مصطفى كامل السيد
مصطفى كامل السيد

آخر تحديث: الأحد 10 نوفمبر 2019 - 11:20 م بتوقيت القاهرة

أيا تكون نهاية الحراك السياسى الحالى فى كل من لبنان والعراق، سواء نجحت الكتلة السياسية الحاكمة فى البلدين فى احتواء هذا الحراك مؤقتا من خلال إصلاحات شكلية، أو فتح الحراك البلدين أمام فترة ممتدة من عدم الاستقرار السياسى، فلا شك أنه أصبح يمثل نقلة مهمة فى وعى المواطنين فى البلدين حول مدى صلاحية الصيغة الطائفية التى يقوم عليها نظامهما السياسى فى علاج الأزمات الملحة التى تفاقم من صعوبات الحياة أمام المواطنين، وهى انتشار الفقر والبطالة، وتردى الخدمات العامة، وانتشار الفساد بين كل مكونات الكتلة السياسية الحاكمة.
النظام السياسى اللبنانى منذ نشأته هو نظام يقوم على الطائفية ويكرسها، توزيع المناصب السياسية الرئيسية وعضوية البرلمان وتولى الوظيفة العامة يجرى وفق معادلة طائفية رسم بعض معالمها الميثاق الوطنى فى ١٩٤٣، وعدل بعض قواعدها اتفاق الطائف فى ١٩٨٩، والنظام السياسى العراقى بدوره ينهض على المحاصصة الطائفية والتى حدد قسماتها الرئيسية بول بريمر أول حاكم مدنى للعراق بعد الغزو الأمريكى فى ٢٠٠٣، والذى غير تركيبة الكتلة الحاكمة ليخص المكون الشيعى بحصة غالبة فى السلطتين التنفيذية والتشريعية وفى أجهزة الأمن وليعزز من وجود الأكراد على قمة الدولة وفى إقليم يتمتع بالاستقلال الذاتى عن حكومة بغداد، وذلك على حساب السنة الذين كانوا العمود الأساسى لنظام الحكم فى العراق منذ استقلاله فى ١٩٣٢. لا شك أن هذه المحاصصة الطائفية فى البلدين كانت محاولة لتبديد مخاوف مشروعة لدى أصحاب بعض الهويات أن يتحول من ينتمون إليها إلى ما يشبه أقلية سياسية مهضومة الحقوق أيا كان ثقلها الديموجرافى. ولكن تجربة ما بعد الاستقلال فى البلدين أكدت أن هذه الصيغة تكمن وراء الشلل الحكومى، والعجز عن مواجهة القضايا الأساسية التى تشغل المواطنين، وأصبحت بابا لتولى السلطة على المستويين المحلى والوطنى من ينجحون فى اللعب على المشاعر الطائفية دون أن تكون لهم أى قدرة أو كفاءة فى إدارة شئون الحكم، كما هيأت هذه الصيغة الطائفية فرصة ذهبية لقوى إقليمية ودولية لكى تصبح طرفا أساسيا فى عملية صنع القرار السياسى فى البلدين متسترة وراء أنصارها المحليين.
توهم مواطنو البلدين، أو على الأقل غالبيتهم أن هذه الصيغة الطائفية هى التى تضمن لهم حقوقهم فى مواجهة أصحاب الهويات الأخرى، وهكذا أصبحت لهذه الصيغة جذور شعبية فى البلدين. فالطريق للحصول على وظيفة أو حتى بعض الخدمات لمنطقة محرومة هو من خلال ممثلى الطائفة فى السلطتين التنفيذية والتشريعية، وساد الشعور بأنه لولا وجود ممثلين يعبرون عن مصالح الطائفة فى دوائر الحكم لما استطاع المواطنون الذين ينتمون إلى هذه الطائفة أن يحصلوا على حقوقهم المشروعة فى الوظائف العامة والخدمات الحكومية فى مواجهة منافسة شرسة على موارد محدودة من جانب طوائف أخرى قد تكون أكثر تميزا من حيث خبرتها بشئون الحكم كحال السنة فى العراق أو من حيث تفوقها فى شئون المال وصلاتها بقوى أجنبية راعية كحال الطائفة المارونية فى لبنان.
***
إن تجربة الطائفية على مدى ثمانية عقود فى لبنان وقرابة عقد ونصف العقد فى العراق قد أقنعت مواطنى البلدين، أو على الأقل هؤلاء الذين يشاركون فى الحراك السياسى الاحتجاجى فى كل منهما سواء فى الشوارع والميادين أو من خلال شبكة التواصل الاجتماعى، أن هذه الصيغة لا تخدم سوى القيادات السياسية وأنصارها وذلك على حساب انتشار الفساد وتردى الخدمات الحكومية والعجز عن امتداد الفقر والبطالة إلى القاعدة الواسعة من المواطنين فى كل هذه الطوائف، ومن ثم طرح الحراك الشعبى فى البلدين مطلب إنهاء الطائفية كخطوة أساسية نحو علاج الأزمات الكبرى التى يعانى منها هؤلاء المواطنون.
جذور الطائفية
ولكن لماذا بدا لفترة من الزمن، أطول نسبيا فى لبنان وأقصر كثيرا فى العراق، أن نظام المحاصصة الطائفية فى البلدين أصبح عميق الجذور، بل ويستند إلى رضاء شعبى واسع، لا يقتصر على من يمكن تسميتهم بالمواطنين الذين تعرضوا ربما لتزييف وعيهم، ولكن له أنصاره أيضا بين المثقفين فى البلدين، وبعضهم لا يحتاج الهوية الطائفية للحصول على الوظيفة أو المكانة التى يستحقها اعتمادا على مؤهلاته التعليمية وقدراته المهنية. هؤلاء أصبحوا يشيعون أن النظام الطائفى يكفل الاستقرار الاجتماعى، ويطمئن أفراد كل طائفة بأن حصولهم على حقوقهم المشروعة أمر مضمون بحكم الدستور والقوانين والممارسات السياسية المرعية.
يجتهد علماء السياسة فى البحث عن تفسير لتجذر مشاعر الانتماء إلى طائفة معينة تنفرد دون غيرها من الطوائف بديانتها أو مذهبها أو لغتها أو تركزها فى إقليم معين أو تجربتها التاريخية المشتركة عبر فترة طويلة من الزمن، وتراوحت تفسيراتهم بين الادعاء بوجود أسس موضوعية للهوية الطائفية، أو بين التأكيد على أن إدراك وجود هذا الشعور المشترك بالانتماء إلى طائفة معينة هو أمر مكتسب وقد يكون نتيجة للإلحاح عليه من جانب القادة السياسيين الذين يجدون فيه أساسا لكسب النفوذ. بعض هذه الأسس الموضوعية وفقا لبعض هؤلاء العلماء ترجع إلى أن الاشتراك فى اللغة أو الدين أو الأصل الجغرافى يخلق ما هو أقرب إلى رابطة الدم التى تجعل من ينتمون إلى طائفة معينة يشعرون بالتضامن التلقائى بل والغريزى مع من يشتركون معهم فى هذه الروابط، ولكن علماء آخرين يجدون أسس هذا التضامن فى الاقتران بين واحد من هذه السمات المشتركة والمواقع المتفاوتة فى توزيع الثروة والنفوذ والجاه. فالشيعة فى لبنان مثلا يجمعهم ليس فقط الانتماء المذهبى ولكن كون أغلبيتهم من الفقراء. ويشدد آخرون على أن الهوية الطائفية هى مختلقة، ونتاج للخطاب الذى يتبناه قادة سياسيون يجدون فى إزكاء المشاعر الطائفية والتأكيد على التمايز بين أفراد طائفتهم والطوائف الأخرى مصدرا لكسب النفوذ وموقع مؤثر على الخريطة السياسية لبلادهم. وأخيرا لا يولى علماء السياسة ممن توفروا على دراسة هذا الموضوع أهمية كبيرة لدور القوى الخارجية. صحيح أنهم يعترفون باستغلالها للانقسامات اللغوية والدينية والإقليمية فى الدول التى تقع تحت سيطرتها أو يميلون إلى بسط نفوذهم عليها، ولكنها لا تخلق هذه الانقسامات، وإنما تستفيد من التوتر الذى ينجم عن إخفاق حكومات هذه الدول فى التعامل مع مواطنيها على قدم المساواة.
***
التجربة التاريخية للنظام الطائفى فى كل من لبنان والعراق أكدت للمواطنين الموارنة والسنة والشيعة والأكراد والدروز أن ما يجمعهم من تردى أوضاع معيشتهم وسوء الخدمات وإدراك الفساد المستشرى بين القادة الذين يدعون العمل باسمهم ولمصلحتهم هو أهم بكثير من تلك الانتماءات الطائفية التى تفرق بينهم، ومن ثم رفعوا شعارهم بأن سبب أزمة لبنان هم كل هؤلاء السياسيين أيا كانت الهوية الطائفية التى يرفعونها. كما أظهرت هذه التجربة للمواطنين العراقيين فى بغداد والبصرة وكربلاء وحتى فى شمال العراق، وأيا كانت حظوظهم من التعليم والثروة ومواقعهم الطبقية أن أس أزمة العراق هو تلك المحاصصة الطائفية التى سمحت لقادتهم أن يجنوا الثروات ويسبحوا فى بحر من الفساد دونما أى قدرة على إدارة شئون البلاد على نحو يقلل من حدة أزماتها رغم ما تملكه من موارد طبيعية وبشرية متنوعة.
رفض الطائفية فى لبنان والعراق يسقط الشرعية عن النظام السياسى الذى حكم البلدين منذ استقلال الأول وعلى نحو مستفز حكم الثانى منذ الاحتلال الأمريكى له وتكرس فى دستوره، وهو يفتح الباب أمام شعور المواطنة الذى هو أساس الدولة الحديثة، وينقل الدول العربية عندما تمتد آثاره لها إلى وضع جديد يختلف جوهريا عما يعرفه معظمها فى الوقت الحاضر، يتوجه فيه قادتها إلى كسب تأييد المواطنين من خلال خطاب عقلانى يقوم على اعتبارات القدرة على الإنجاز بدلا من استسهال بناء الشرعية وتعبئة المواطنين على أساس مخاطبة انتماءاتهم الأولية، وإثارة النعرات الرخيصة بين بعضهم البعض.
هل ينجح الحراك الشعبى فى البلدين فى بلوغ غاياته؟
على قدر نبل وجلال المهمة التى يتولاها الحراك الشعبى فى البلدين ويصر عليها بوضوح، على قدر الصعوبات التى يواجهها فى طريق تحقيقها. ومما يضاعف من هذه الصعوبة أن هذا الحراك الشعبى يشترك مع موجة الاحتجاجات الشعبية العارمة التى عرفها الوطن العربى فى سنة ٢٠١١، وعرفها هذا العام فى كل من الجزائر والسودان وامتدت إلى دول أخرى فى العالم فى الوقت الحاضر مثل شيلى وإكوادور فى أمريكا الجنوبية، أنه حراك واسع يفتقد فى معظم حالاته القيادة وبرنامجا واضحا لكيفية بلوغ أهدافه وتصورا للخطوات الوسيطة التى تنقله إلى غاياته الكبرى. كما أن الكتلة الحاكمة فى البلدين لا يمكن أن تسلم بسهولة بالتخلى عن الأسس الدستورية والقانونية والممارسات السياسية التى هيأت لها أن تحتكر على نحو جماعى ركائز السلطة والثروة فى أياديها. لقد تعلم السودانيون من دروس ثورة يناير فى مصر، وأفرخ الحراك الشعبى هناك قوى إعلان الحرية والتغيير التى قادته إلى ما يمكن اعتباره انتصارا نسبيا، ولكن يفتقد لبنان مثل هذه القيادة، كما لا يبدو أن مبادرة تضامن المجتمع المدنى العراقى تحظى بتأييد واسع داخل الحراك الشعبى فى بلد الرافدين.
تلجأ الكتلة الحاكمة فى لبنان إلى المناورة والتظاهر بتأييد أهداف الحراك كسبا للوقت، ولا تتورع عن استخدام عنف كتائبها المسلحة سواء تلك التابعة لحزب الله أو حركة أمل ضد الحراك أو حشد قدر من التأييد الشعبى لبعض شخوصها على أمل أن تنجح كل هذه الأساليب فى بث اليأس فى نفوس المواطنين الذين يشاركون فى الحراك، بينما لا تتردد الكتلة الحاكمة فى العراق، على الرغم مما يسودها من انقسامات عن توجيه أجهزة الأمن لقمع الحراك بكل الوحشية وهو ما أسفر بالفعل عن مقتل مئات من المتظاهرين وذلك مع استمرار التظاهر بالسعى لتحقيق الإصلاح المنشود.
قد تنجح كل هذه الأساليب فى بث الشعور باليأس من التغيير فى نفوس المواطنين المشاركين فى هذا الحراك، ولكن الوعى الجديد الذى خلقه فى البلدين لن يختفى مع الهزيمة المحتملة للحراك فى الحاضر، فهو وقد استقر فى العقل الجمعى للمواطنين سيجد طريقه فى المستقبل لبلوغ غاياته من خلال توليد القيادة والتنظيم والبرنامج الذى يمكنه من أن يحقق غاياته فى إقامة دولة المواطنة فى الوطن العربى.

أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved