كان يا مكان.. كان في جروبي

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: الأحد 10 نوفمبر 2019 - 5:10 ص بتوقيت القاهرة

لا أدري ماذا ستكون ردة فعل خليل شاهين، الموسيقي الفرنسي الذي ولد في القاهرة لأب مصري وأم فرنسية- أمريكية، عندما يعلم بما فعلناه بالفروع المختلفة لمقهى ومطعم جروبي، الذي ألهمه ثامن ألبوماته فأطلق عليه "مقهى جروبي" (Kafé Groppi). تعاون هذا الفنان البارز منذ بداياته كعازف جيتار مع أكبر أسماء الساحة الفرنسية أمثال ميشال لوجران وهنري سيلفادور وديان ديفرسن، قبل أن يتحول إلى التلحين والتوزيع في ثمانينات القرن الماضي ويرتبط اسمه بالعديد من مقطوعات الموسيقى التصويرية التي ألفها خصيصا لأفلام شهيرة وبرامج تليفزيونية إخبارية. وعام 2012 عهد إليه متحف اللوفر بتأليف موسيقى تعرض في حفل كبير بالتزامن مع أول فيلم محفوظ للرسوم المتحركة مستوحى من ألف ليلة وليلة، وهو "مغامرات الأمير أحمد" الذي يرجع تاريخه لعام 1926.

يظهر خليل شاهين على غلاف ألبومه الذي صدر قبل عام بنجاح كبير، مرتديا طربوش وبدلة كلاسيكية، جالسا على كرسي خشبي قديم، في إشارة لحقبة ذكريات طفولته وقاهرة الخمسينات التي كان جروبي أحد أهم معالمها. لا أدري إن كان والده عازف الترومبيت والمغني ضمن من شاركوا في حفلات جروبي الموسيقية في السابق لذا فهو يحمل للمقهى مكانة خاصة، أو أنه كان فقط من مرتادي المكان الذي يصفه بحساسية شديدة في مقدمة ألبومه كأهم نقاط تلاقي المدينة الكزموبوليتانية، حيث الأناقة والجمال ونقاشات الشعر والأدب وسجالات السياسة.

***
من خلال الموسيقى يمكننا أن نتخيل شخوص المكان وحركة الزبائن والجو العام. جمل الكمان ذات النكهة الشرقية تفيض بالحنين، وتحملنا إلى رحلة بعيدة في الزمان والمكان. نفهم أكثر توليفته الموسيقية التي احتار فيها النقاد، عندما يصفون كيف تذيب موسيقاه الفوارق بين الثقافات وبين الأنواع وتصهرها جميعا بأناقة متناهية، فقد تربى في مدينة تشبه جروبي. هذه التركيبة الفريدة تتجلى في ألحانه التي تخلط أحيانا الموسيقى الكلاسيكية بالجاز بالأنغام الشرقية، دون أن نشعر بأي تنافر أو ادعاء، ينتقل بعذوبة وسهولة ويسر بينهم جميعا، لأن ذلك جزء أصيل من تكوينه سواء بالمولد أو بالنشأة. وهو يعترف دوما بذلك حين يردد ارتباط الموسيقى لديه بالذاكرة، وخاصة بطفولته في مصر التي كلما ظن أنه ابتعد عنها تباغته في موسيقاه من جديد، وهو في رأيي سر حلاوة وصدق هذه الموسيقى التي تنساب كنهر النيل أو مياه المتوسط. هذا طبعا فضلا عن موهبته كعازف ومؤلف.

ومثلما شكل جروبي مكانا استثنائيا للحوار ولمقابلة الندماء والأصدقاء فخليل شاهين يعمل أيضا بهذه الطريقة، يتحاور مع موسيقيين بارعين آخرين من أصول وبلدان مختلفة، يترك لكل عازف مساحته كما في مقطوعات الجاز أو الموسيقى الشرقية، فيكون الحوار أجمل وبه كثير من التواطؤ، وهو ما يحدث حين يتجاوب جيتاره مع عازف الكمان التونسي الأصل جاسر حاج يوسف بنوتاته الشجية أو مع عازف الأكورديون أو البوندونيون، الأصغر حجما، الذي يحيلنا إلى أعمال المؤلف الأرجنتيني العظيم آستور بيازولا، فقد مزج هو الآخر عناصر من الموسيقى الكلاسيكية والجاز والتانجو التقليدي.

يظهر المزج لدى شاهين في استخدام الآلات: جيتار وبندير ودربوكة وبيانو، ونلاحظه أيضا بسهولة في اختياراته لعناوين أعماله، بعضها مصري وعربي وإيطالي وإسباني وفرنسي، وبعضها يحيلنا إلى مكان وصورة: مكتوب، مش معقول، تريانوا، جروبي، نون، تركواز، كايروس... هذا الأخير هو إله الزمن في الميثولوجيا الإغريقية أو بالأحرى اللحظات المواتية. يقف على أطراف أصابعه، يركض دائما، ويرصد اللحظة الخاطفة التي تظهر فجأة وسرعان ما تختفي، كما يفعل خليل شاهين حين يحول مناغاة طفلة تتعلم الكلام إلى لحن لطيف ويسميه "طبطبة"، يسرق اللحظة ويحولها إلى موسيقى ناطقة ولغة عالمية نفهمها جميعا.

***
هذه الساعات التي تتمطى قبل أن يمر بنا الزمن يحولها هو إلى شيء مبدع، أما نحن فعلاقتنا بماضينا أعقد بكثير. موسيقى خليل شاهين تجعلنا نتأمل هذا الماضي بحب وحنية، في حين غيره لا يأبه بكل هذه الذكريات وما تمثله من زخم، فيهدم مكان مثل جروبي غير عابئ بتاريخه وجمال قطع الموزاييك الأزرق التي استوردت من فينيسيا لكي تزين المدخل، أو برسومات السقف التي نفذها طلبة مدرسة الفنون الجميلة بباريس أو قطع كريستال "اللاليك" أو الثريات الضخمة التي ميزت المكان... لو وجد هذا المقهى في بلد آخر لظل محتفظا برونقه حتى الآن ولجلب لملاكه ثروة هائلة، لكننا نهدمه ونحوله في أفضل الأحوال إلى جزء من سلسلة أمريكية بعد أن ننزع الثريات.. كما لو أنها تؤرق نوم من اشتراه.

يحي ألبوم خليل شاهين تاريخ مكان يرجع إلى بدايات القرن الفائت، مؤسسة كاملة توسعت في العشرينات وضمت مصنعا للشوكولاتة وآخر للثلج وأنواع الآيس الكريم المبتكرة ومزرعة في جزيرة الذهب لتربية الدواجن والزراعة وصناعة منتجات الألبان، لتوفير العديد مما يلزم المطعم، حرصا على الجودة. جروبي كان أيضا واحدا من الأماكن الرائدة التي سمحت بعمل السيدات في هذا المجال، كما ضمت حديقة أحد فروعه أول دار سينما في الهواء الطلق. هو شاهد على عصر كامل، إذ بدأ السويسري جياكومو جروبي بتأسيس مقهى ومحل حلويات خاص به في الإسكندرية عام 1890، وهو في السابع والعشرين من عمره، وكان أول من أدخل الكريم شانتيه إلى مصر، قبل أن يأتي إلى القاهرة ويفتح بها أفرعه المختلفة بمساعدة ابنه.

احتفظ خليل شاهين في موسيقاه وذاكرته بروح هذا المكان، أما نحن فنهدم ونشوه ما تبقى، وجروبي ليس الوحيد الذي عبثت به أيدينا فدمرته.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved