حوكمة إصدار تراخيص البناء

وائل زكى
وائل زكى

آخر تحديث: الثلاثاء 10 نوفمبر 2020 - 8:05 م بتوقيت القاهرة

إدارة المدن حديثا علم وخبرة، ليست بالعلم فقط وليست بالخبرة فقط، إن أردنا أن ندير مدننا بشكل يتماشى مع ما ندعو له من تطبيق أسس صديقة للبيئة وتنمية مستدامة، وما يقام من مؤتمرات أسماؤها أشبه بالشعارات ومخرجاتها توصيات فى الأغلب يتم إلقاؤها من منصة المؤتمر لتسقط أمامها، ويهنئ الجميع بعضهم على نجاح المؤتمر، نجاح المؤتمر فى تطبيق توصياته وفى الغالب يكون نجاحه ليس له علاقة بموضوعه بل بتنظيمه ومستوى خدماته وقد ينتهى بتكريمات، وكثيرا ما نجد فى الواقع إدارات ميدانية أسماؤها أشبه بالشعارات ونجاحاتها ليس لها علاقة بالموضوع قدر ما له علاقة بالتنظيم ومستوى الخدمة بصرف النظر عن نتيجة هذه الخدمة وجودة أو فاعلية التنظيم من عدمه.
لدينا مدن جديدة تتبع هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة التى تمثل المقاول الذى كان يجب فور انتهاء عمله أن يسلم ما تم تنفيذه إلى الجهة صاحبة الولاية وهى المحافظة التابع لها المدينة الجديدة، فكم مدينة جديدة تم تسليمها إلى محافظتها؟ وكلما انتهت فيها مرحلة فتحت أخرى فتستمر تحت إدارة الهيئة، أقول ذلك ولن أخفى عدم رغبتى فى تسليم مدينتى الجديدة التى أقطنها إلى محافظتها، ولكن لماذا تلك الرغبة التى قد تكون عامة بين ساكنى المدن الجديدة؟ وإذا كانت المدن الجديدة قديمها منذ سبعينات القرن الماضى صارت، على الرغم من امتداداتها التى تبقيها تابعة لهيئة المجتمعات العمرانية الجديدة، ذات نظام إدارى مستقر أصبح مقابلا للنظام الإدارى للمدن التابعة للمحليات التى تتبع وزارة التنمية المحلية، فصار فى بلادى نظامان لإدارة المدن ووزارة شعارها التنمية المحلية.

***

ومع المحاولات الجادة من حكومتنا الرشيدة لضبط أعمال البناء والعمران يبدو أن التحدى لحل مشاكل المحليات لن يأتى وفى يد الأخيرة مقاليد إصدار تراخيص البناء، فقد يكون حلا أن يتم رفع تلك السلطات حتى يتم إعادة التأهيل ثم ترد مرة أخرى طبقا لتعديلات القانون المزمع تعديله، وإذا كانت المحليات والأحياء هى الطرف الإدارى المنظم لعملية البناء ففى المقابل هناك الشريك الفنى فى أعمال الترخيص وهو المهندس والشريك المهنى وهى نقابة المهندسين التى تعتمد أعمال المهندس بصفته عضوا بها والمفترض أنها ضامنة بذلك كفاءة هذا المهندس وأمانته المهنية وقد صنفته ما بين مهندس واستشارى، فهل هناك خلل ما فى ذلك؟ فى الواقع هناك خلل كبير فى ضبط ممارسة المهنة يتجلى جانبا منه فى عدم التدقيق فيما يصدر من شهادات إشراف لصالح مهندسين لا يمر على إصدارها شهر ليقوم المهندس بإلغائها بحجة عدم سداد مستحقاته.
نقابة المهندسين تفرض عددا محددا من عمليات الإشراف للمهندس، ولأن عملية الإشراف هى صورية فى الواقع ولا يلجأ لها كثير من الملاك برعاية التنفيذ الذاتى، فيضطر المهندس للتخلص من مسئولية شهادة الإشراف ليستطيع عمل غيرها فى حدود العدد المسموح له، فى حين كان تحديد العدد بهدف إتاحة فرص عمل أمام عدد أكبر من المهندسين، وإذا كانت النقابة لها صفة إشرافية فهى لا تملك الصفة الإدارية التى تخولها اتخاذ ما يلزم نحو البناء المخالف وربما فى ذلك عدم تعدى على سلطات التنفيذ المحلية، فى حين أن الأخيرة لا تملك من الإمكانات ما يخولها أيضا لتمام العملية الرقابية والمتابعة الفنية لأعمال البناء، وعندما ينفرط العقد تهون فرادى حباته، يتيه مهندس التنظيم بالحى فى ذلك الكم من أعمال البناء والتعديات، ولأن النظام الإدارى قد يقف طويلا وحاسما أمام أوراق العمل فإن المهندس يفضل أن يضبط أوراقه وتأشيراته ومراجعاته على اللوحات دون المتابعة الميدانية القاصرة على ضبط الشكاوى وما يترامى من إخباريات.

***

لقد رأت حكومتنا أن تلجأ للجامعات بما فيها من خبرات علمية وعملية، ربما تصدر الجامعة من خلال مراكزها المتخصصة ووحداتها ذات الطبيعة الخاصة ترخيص البناء بعد تدقيق مستنداته ولكن هل ستقوم بالجانب الفنى بديلا عن المهندس؟ بالطبع لا... إذا ستتعامل فى هذه الحالة مع المهندسين، فهل ستقوم بالجانب المهنى تجاه المهندس؟ بالطبع لا، فهناك نقابته أولى به لاعتماده واعتماد مستنداته التى يقدمها بصفته المهنية، إذا لم يتبق سوى الجانب الإدارى فى مسألة إصدار الترخيص بدلا عن إدارة التنظيم والتراخيص بالحى، فهل ستخصص الجامعة كوادر للمتابعة الميدانية، أم سيقف دورها عند تدقيق الرسومات والمستندات؟ هل لدى الجامعات من الكوادر والمساحة من الوقت لتقوم بهذا الدور المجتمعى بجانب أدوارها الأكاديمية والبحثية، وهل هذا الدور مؤقت لحين ضبط أعمال الأحياء والمحليات أم مستمر ويحتاج لتعديل عدد من القوانين؟
هناك تجارب ناجحة لحوكمة إصدار تراخيص البناء قد تغنى عن تحميل الجامعات مسئولية إصدارها ويكفيها ما هو ملقى على كاهلها متمنين لجامعاتنا أن تتبوأ ترتيبات أفضل فى التصنيفات العالمية، فيفترض أن المحافظة تتعامل مع مكاتب هندسية مسجلة لديها فى إدارة خاصة بهم، يقوم المواطن بالتواصل مع المكتب الهندسى الذى تخصص له المحافظة صفحة على موقع الإدارة الخاصة بهم، فيقوم المكتب بتسجيل طلب المواطن للترخيص له بالبناء على أرضه مع كروكى لموقع الأرض وصور من مستندات الملكية تقدم أصولها عند تسليم ملف العملية، وعندما تأتى الموافقة المبدئية على البريد الإلكترونى للمكتب الهندسى مشمولة ببيان اشتراطات البناء، يتوجه المواطن لسداد رسوم الترخيص فى حساب بنكى خاص بذلك، ليبدأ بعدها المكتب الهندسى فى تصميماته وتقديمها مع المستندات المطلوبة إلى إدارة المكاتب الهندسية بالمحافظة، هذه الإدارة هى التى تقوم بتوزيع الأعمال على المدن والأحياء أو الإدارات الفرعية التابعة لها، ولا يتم تعامل المكاتب الهندسية مع الأحياء وليس هناك تعامل نهائى بين المواطن والحى.
يفترض أن يكون إصدار الترخيص من الجهة الإدارية باسم المالك للمكتب الهندسى بصفته المسئول عن البناء لحين الانتهاء منه وتغيير المكتب الهندسى يعنى إلغاء الترخيص، هنا الحديث عن المكتب الهندسى وليس عن المهندس، لذلك نلمس أحد أوجه العوار فى ممارسة المهنة حيث أن نقابة المهندسين لا تسجل لديها سوى المكاتب الاستشارية فقط، أما المكاتب الهندسية التى تملأ شوارع المحروسة فهى تعمل تحت مظلة السجل التجارى دون أى سند نقابى سوى ما يؤهل صاحب المكتب بشكل فردى، وبالتالى قد لا تستطيع النقابة الاستدلال على عنوان ثابت أو مكتب لمهندس لديه سجل هندسى صادر منها ويعمل به، وقد يتم تضليل المواطن عندما يجد مكتبا هندسيا بلافتة المكتب الهندسى الاستشارى مثلا لنفاجأ بأن هذا الاسم تجارى وليس له صفة مهنية فهو ليس مكتبا مسجلا بالنقابة وليس هو استشاريا ــ مكتبا أو مهندسا ــ وكم من مكاتب يكتشف صدفة أن أصحابها ليسوا مهندسين، وماذا فى ذلك وقد صار لقب مهندس أو «باشمهندس» مضغة مجاملة بين الجميع.

***

واستكمالا للافتراض فإن المكتب الهندسى يشارك بإشرافه فى عملية الإشراف الإدارى وليس الفنى فقط على إنجاز العمل ورفع تقرير إنجاز بالصور لإدارة المكاتب الهندسية المفترضة بالمحافظة وجميع ذلك إلكترونيا، مع قيام الإدارات والمكاتب الحكومية التابعة للمحافظة بالمرور المفاجئ والعشوائى فى اختيار عينات المتابعة والمطابقة مع تقارير المكاتب الهندسية، وحين يثبت عدم صحة تقرير مع الواقع يتم شطب المكتب وتغريم صاحبه وتعريضه للمساءلة القانونية والقضائية، وليس للمواطن دور أيضا فى ذلك إلا حين ثبوت تجاوزه عن طريق مقاول فتنسحب المسئولية على المقاول وفى ذلك جميعه ليس هناك ما يسمى التنفيذ الذاتى، فطالما أسند العمل لمكتب هندسى صار هو المسئول عن البناء حتى تمام انتهائه وتسليمه للحى التابع أولا ثم للمالك بعد اعتماد الحى بإصدار شهادة صلاحية البناء للاستخدام، هنا يبدو أن الأقدر على تطبيق نظم الحوكمة فى مسألة إصدار التراخيص هى الجامعات بالفعل، فهل ستقوم بهذا السيناريو؟
إن هذا النظام المفترض هو فى الواقع معمول به فى عدد من الدول وقد أسهم كثيرا فى القضاء على ظواهر سلبية عدة كان فى مقدمتها فساد العلاقة بين المالك ومسئولى الحى، وبالتالى فساد المنتج وهو البناء الذى يستخدمه الناس ويكون تأثير عدم صلاحيته الإنشائية إما على أرواح الناس أو على استثماراتهم عندما يقصر عمر البناء إلى النصف أو تبدأ مشاكله فى الظهور بعد عدد من السنوات القليلة ليفقد مشتروه مدخراتهم فى شرائه، فضلا عن كونه خالف الاشتراطات البنائية أو لم يخالفها، فتأثير ذلك نتيجته ضعف قدرة شبكات البنية الأساسية على تحمل تلك المخالفات، لذلك فإن اللجوء لنظم تكفل التعامل المحدد فى الاشتراطات والمعتمد على نظام إلكترونى ليس فيه معاملات الوجوه لبعضها أو التعامل المباشر بين أصحاب المصالح ومقدمى الخدمة هو ضمانة أولى لنجاح ضبط أعمال الجهاز الإدارى وفرصة لإعادة هيكلة إدارات التنظيم والتراخيص بالمحليات.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved