الدولة المدنية فى مشروع الدستور

مصطفى كامل السيد
مصطفى كامل السيد

آخر تحديث: الإثنين 10 ديسمبر 2012 - 9:00 ص بتوقيت القاهرة

طرحت الجمعية التأسيسية التى انتهت من أعمالها يوم الثانى والعشرين من نوفمبر الماضى مشروع دستور دعا رئيس الجمهورية المواطنين للتصويت عليه يوم الخامس عشر من ديسمبر، وقد لقى هذا المشروع ردود فعل متباينة، أيده البعض بشدة مدعيا أنه أفضل دستور عرفته مصر منذ بداية تاريخ الدساتير فيها فى ستينيات القرن التاسع عشر، وانتقده آخرون.

 

وربما يكون من الضرورى حتى يمكن أن نتفق على نتائج أى تقويم لهذه الوثيقة أن نتبنى معايير واحدة لهذا التقويم، ولما كان هذا الدستور يصدر بعد ثورة، فيترتب على ذلك أن يكون تعبيرا أمينا عن مثل هذه الثورة. فهل يمكن اعتبار تلك الوثيقة التى أفرزتها الجمعية التأسيسية فى تشكيلها الثانى انعكاسا صحيحا لروح هذه الثورة؟ لقد كان شعار الدولة المدنية واحدا من الشعارات التى انطلقت فى ميدان التحرير وقت الثورة، ولم يظهر اعتراض على هذا الشعار فى ذلك الوقت، بل إنه بالعودة إلى أدبيات الإخوان المسلمين نجد تصريحات لقادتهم أكثر من مرة بأن ما يتطلعون إليه ليس دولة يحكمها رجال الدين،  ولكن دولة يحكمها برلمان منتخب، وأضاف المرحوم مأمون الهضيبى مرشدهم العام الأسبق بأن مهمة هذا البرلمان ستكون تطبيق الشريعة الإسلامية باعتبارها خيارا شعبيا، ولكن تصاعد الرفض لمفهوم الدولة المدنية مع الظهور القوى للتيار السلفى الذى سارعت بعض رموزه فى بداية الثورة إلى إدانتها باعتبارها فى رأيهم تمردا على حاكم مسلم ومن ثم أصبح مصطلح الدولة المدنية مصطلحا يتجنب الإسلاميون جميعا استخدامه، ونجحوا فى إسقاطه من وثيقة الأزهر التى تصف الدولة المأمول قيامها فى مصر بأنها دولة حديثة ديمقراطية ودستورية، علما بأنه لا توجد دولة حديثة ليست مدنية، واختزل قادة الإخوان، ومنهم الرئيس محمد مرسى، مفهوم الدولة المدنية فى كونها الدولة التى لا يحكمها العسكريون. فهل يقيم مشروع الدستور أركان دولة مدنية فى مصر؟.

 

••• 

 

ولنقر صراحة بأن الدولة المدنية هى دولة تفصل بين الدين والدولة. طبعا سينهض أنصار التيار الإسلامى للقول هذا هو ما تنشده القوى المدنية، فهى تريد بحسب ظنهم استبعاد القيم الروحية، ومناهضة الإسلام. وفى مثل هذا الإدعاء سوء فهم خطير لمفهوم الدولة المدنية عموما ولطبيعة الشعب المصرى ثانيا.

 

الدولة المدنية تحترم عقائد كل من يعيش على أرضها، وتحتفل بأصحاب العقائد المختلفة، وهى بالقطع لا تعادى الدين، وبصرف النظر عن بعض الممارسات المتطرفة فى الدول التى حكمتها أحزاب شيوعية فى أوروبا وفى شرق آسيا، فلا تكاد توجد دولة متقدمة تنكر على مواطنيها حقهم فى ممارسة شعائرهم الدينية، أو لا تسمح بمدارس دينية تقيمها المؤسسات الدينية لمواطنيها. ومن ناحية أخرى فالقول بالفصل بين الدين والدولة لا يعنى أن تتصرف الدولة على نحو غير أخلاقى مع مواطنيها، أو أن تنكر القيم الأساسية فى عقائدهم الدينية. وفيما يتعلق بمصر، فالشعب المصرى، كما أظهرت ذلك دراسات عديدة موثقة هو من أكثر شعوب العالم تدينا، وقد زادت مظاهر تدينه كثيرا فى العقود الأخيرة، وقد تجاوز عدد المآذن فى القاهرة الألف مئذنة التى عرفت بها، ومعظم الكتب التى يقرؤها المصريون هى كتب دينية، حتى ولو لم يكن الفكر الذى تنطوى عليه هو الفكر الإسلامى الصحيح. ولذلك فمن العبث تصور أن هناك مؤامرة على الإسلام فى مصر، أو أن فجر الإسلام قد بزغ فى مصر مع إنشاء جمعية الإخوان المسلمين، أو مع السماح لها بمعاودة نشاطها العلنى بعد ثورة 25 يناير ونجاح مرشحيها المبهر فى الانتخابات التشريعية والرئاسية.

 

وقد ابتعدت وثيقة الدستور التى أقرتها الجمعية التأسيسية عن هذا المعنى الأول للدولة المدنية، فبعد التأكيد على أن مبادئ الشريعة الإسلامية هى المصدر الرئيسى للتشريع فى المادة الثانية، وأن أصحاب العقيدتين المسيحية واليهودية لهم الحق فى العودة إلى مبادئ شريعتيهم فى أحوالهم الشخصية، وقصر ممارسة الشعائر على أتباع الديانات السماوية وحدهم فى المادة الثالثة، تأتى المادة الرابعة لتقتضى أخذ رأى هيئة كبار العلماء فى الأزهر فى كل مايتعلق بالشريعة، وتورد المادة 219 تعريفا واسعا وغامضا فى الوقت ذاته لمبادئ الشريعة بأنها تعنى الأدلة الكلية والقواعد الفقهية والنظرية فى المصادر المعتبرة لأهل السنة والجماعة. وهذا يعنى ضرورة العودة لعلماء الأزهر فى كل أمور الحياة تقريبا.أفليست الشريعة دنيا ودين.؟ ألا تنطوى الشريعة فى رأى الإسلاميين على كل مايهم البشر من سياسة واقتصاد واجتماع ومسلك شخصى ومأكل وملبس إلى آخره، ولذلك دعا بعض قادة السلفيين أن يكون نص المادة الثانية هو أن أحكام الشريعة الإسلامية هى المصدر الوحيد للتشريع.

 

خطورة هذا المسعى هو أولا إقحام الأزهر فى قضايا السياسة أو المجتمع الخلافية التى لا يوجد نص فى الشريعة ثابت القطعية والدلالة عليها، وأن فى ذلك حجر على اجتهاد المسلمين بل والمواطنين عموما فى البحث عن أفضل السبل لإدارة شئون حياتهم، وهى التى تركها لهم نبى الإسلام العظيم عندما نهى صحابته عن الاسترشاد برأيه فى أمور لا تمت بصلة للدين قائلا لهم «أنتم أعلم بشئون دنياكم». وهل تملك حكومة مصر بعد استشارة هيئة كبار العلماء الأزهريين أن تتجاهل فتواهم؟. ألن تتهم بالكفر فى هذه الحالة؟وهل هم أصلا مؤهلون للفتوى فى أمور الاقتصاد والمجتمع والاستراتيجية العسكرية وتنظيم المرور وحماية البيئة الخ؟. وما هو الفارق بين ضرورة أخذ رأى كبار علماء الأزهر فى كل ما يتعلق بالشريعة التى تتسع لكل أمور الحياة وفكرة ولاية الفقيه فى إيران التى ينكرها علماء السنة.؟ أو ليس هذا المركز المتميز لعلماء الأزهر فى مواجهة الحكومة المنتخبة صورة أخرى مستترة للحكومة الدينية التى يقول قادة الإخوان المسلمين أنهم لا يسعون إلى إقامتها.

 

إن طلاب الحقوق فى جامعاتنا يدرسون الشريعة الإسلامية وفى كثير من الأحيان على يد مشايخ أزهريين. وقضاتنا عالمون بمبادئ الشريعة ومدارسها المختلفة. وأتحدى أن تكون محاكم مصر قد أصدرت حكما واحدا يخالف الشريعة الإسلامية. فدعونا لا ننزلق إلى حرب أهلية وراء قضية حسمها قضاؤنا الشامخ بما فى ذلك محكمتنا الدستورية منذ عقود.

 

•••

 

 وحتى بالنسبة لتعريف الدولة المدنية الذى يميل إليه قادة الإخوان، وأنها ليست بالدولة التى يحكمها العسكريون، فقد تنكر مشروع الدستور لهذا الفهم، واسبغ على القوات المسلحة مكانة تعلو على أى سلطة مدنية، فقد اشترط أن يكون وزير الدفاع من ضباط القوات المسلحة،  بينما هو مدنى فى كل الدول الحديثة والديمقراطية،، وحرم مجلس النواب من المناقشة التفصيلية لميزانية القوات المسلحة، وسمح بإحالة المدنيين إلى محاكم عسكرية بحجة الإدعاء الفضفاض وهو قيامهم بأعمال تضر القوات المسلحة. ويمكن أن يسمح ذلك فى المستقبل مثلا بإحالة من يدعو إلى التدقيق فى ميزانية المشروعات المدنية للقوات المسلحة إلى محاكمة عسكرية بحجة أن إدعاءه هذا يضر بالقوات المسلحة.

 

دعونا إذن نستبدل هذه النصوص بأخرى تضع الأساس لقيام دولة مدنية «حديثة وديمقراطية» فى مصر، ولا داعى للاحتقان غير المبرر فى مناقشة مثل هذه الأمور.

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved