لغة القوة وموقف ترامب من القدس

مصطفى كامل السيد
مصطفى كامل السيد

آخر تحديث: الأحد 10 ديسمبر 2017 - 10:05 م بتوقيت القاهرة

لا يعرف دونالد ترامب، مثل بعض الرؤساء الأمريكيين السابقين، سوى لغة القوة. يستعملونها لفرض سيطرة الولايات المتحدة على شعوب أخرى، ويضطرون للتنازل بل وقبول الهزيمة عندما تعرف بعض هذه الشعوب كيف تبتكر من أساليب النضال ما يوقف الجبروت الأمريكى عاجزا أمامه. أليس هذا هو الدرس الذى نستخلصه من تأمل علاقات الولايات المتحدة فى لحظات التوتر مع فيتنام وإيران وكوريا الشمالية؟

شعوبنا العربية تعرف ذلك عن الرئيس الأمريكى، ولذلك كان رد الفعل على إعلانه الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل واستعداده لنقل السفارة الأمريكية إليها من تل أبيب هو الشعور بالسخط على نظم الحكم العربية وخيبة الأمل فيها، لأنها تدرك أن القيادات العربية لن تملك سوى استخدام مهاراتها اللفظية فى الإعراب عن الاستنكار والرفض لقرار الرئيس الأمريكى دون أن تستخدم من أدوات الفعل ما يدفع الإدارة الأمريكية إلى التراجع عن موقفها. ومع أنى أشارك هذا الشعور الشعبى العربى العام، ولا أتوقع الكثير من القادة العرب، إلا أنه ليس من الصحيح أننا لا نملك سوى الصراخ والزعيق، وأننا عاجزون عن فعل يجعل الإدارة الأمريكية تدرك أن هناك ثمنا لتجاهلها المشاعر العربية والإسلامية على هذا النحو.

والواقع أن ردا قويا على هذا الموقف من جانب دونالد ترامب هو ضرورى، ليس فقط لأنه بهذا القرار ينتهك قواعد القانون الدولى التى تحظر الاحتلال العسكرى، وقرارات عديدة للأمم المتحدة بشأن القدس تحديدا، ويتجاهل مواقف كل القوى الدولية بما فى ذلك كبرى الدول الحليفة للولايات المتحدة مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا وسلطة روحية تحظى بالاحترام مثل البابا فرانسيس بابا الفاتيكان، ولكن لأن هذا القرار غير أخلاقى وعنصرى، فهو يقف إلى جانب القوى المتغطرس الذى اغتصب حقا لشعب لا يملك فى الوقت الحاضر ما يمكنه من رد الاعتداء على أمنه وأرضه وتراثه الثقافى ومقدساته الدينية، وهو عنصرى لأنه يتجاهل مشاعر ملايين العرب والمسلمين ولا يقيم لهم وزنا على الرغم من العلاقات الودية التى ربطته بمعظم حكامهم سواء فى الخليج ومصر أو خارج العالم العربى فى باكستان وإندونيسيا وغيرها من الدول الإسلامية. وليس هذا الموقف العنصرى بجديد عليه. فهو الذى صرح أثناء حملته الانتخابية بأن «الإسلام مشكلة، والمسلمون يكرهوننا»، وهو الذى يتجاهل أن الاعتداءات الإرهابية التى تعرضت لها الولايات المتحدة فى السنوات الأخيرة جاءت من مواطنين أمريكيين يقيمون على أراضيها، وكان رده على ذلك هو حظر دخول المواطنين من ست دول إسلامية.

***

أولى خطوات الرد هو ألا ننخدع بطريقة تسويق الرئيس والإدارة الأمريكية لقراره. فهو يدعى أن قراره هذا لا يؤثر على مسار التوصل لحل للصراع الفلسطينى الإسرائيلى، سواء كان من خلال مبدأ الدولتين أو أى مبدأ آخر، ولا على مستقبل الحدود. بما فى ذلك حدود القدس، بل وتشيع إدارته أن لديها تصورا لحل نهائى لهذا الصراع سوف تعرضه على دول المنطقة. الرئيس الأمريكى يتجاهل أن القدس بالنسبة للحكومة الإسرائيلية ليست فقط ما يسمى بالقدس الغربية التى يوجد فيها مقر الحكومة الإسرائيلية والكنيست، بل هى كل القدس بما فيها الأماكن المقدسة والبلدة القديمة. وقد كرر رئيس الوزراء الإسرائيلى أن القدس هى العاصمة الموحدة والدائمة لدولة إسرائيل، ولذلك فالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل يعنى بالنسبة للإسرائيليين اعترافا بشرعية مد سيطرتهم على القدس العربية، ولذلك كان أول رد فعل لهم على القرار الأمريكى هو رفع علم إسرائيل على القدس العربية وعلى مقربة من المسجد الأقصى. وأما ما يتعلق بسعى إدارة ترامب للوصول إلى تسوية نهائية للصراع العربى الإسرائيلى، فعلى الرغم من كثرة الحديث عنها، فلا يعرف أحد على وجه اليقين ما هو مضمونها المحدد، وما صرح به جاريد كوشنر زوج ابنة الرئيس الأمريكى، والذى تحدث عنها فى زيارته الأخيرة للشرق الأوسط، أنها مجرد أفكار تعرضها الإدارة الأمريكية على الأطراف المعنية، ولكنها لن تفرض عليهم شيئا. وبما أن الإدارة الأمريكية لن تفرض شيئا على إسرائيل، فأغلب الظن أنها ستمارس ضغوطها على الفلسطينيين ليقبلوا ما يتفضل قادة المستوطنين الإسرائيليين فى الضفة تركه لهم كدولة غير مترابطة الأجزاء منزوعة السلاح وبلا عاصمة فى القدس الشريف، وبدون حل مرضٍ لهم لقضايا المياه أو الحدود أو اللاجئين.

لا نتوقع أن تقوم الحكومات العربية بقطع علاقاتها بواشنطن، ولا سحب سفرائها منها، وأشك فى جدوى مثل هذا الأسلوب، والأفضل هو مد جذور التواصل مع قطاعات عديدة فى المجتمع الأمريكى لتوضيح وجهة النظر العربية حتى مع رفض توجهات إدارة ترامب بالنسبة للقضايا العربية. كما لا أتوقع أن تقوم الحكومتان المصرية والأردنية أو السلطة الفلسطينية بقطع العلاقات الرسمية مع إسرائيل، وإن كان الشعور بالكرامة يقتضى منها أن توقف اتصالاتها العلنية والسرية مع الحكومة الإسرائيلية. وأشدد على وقف الاتصالات غير المعلنة مع القادة الإسرائيليين، لأن ما نخشاه هو ما لا يحب القادة العرب أن يعلنوه، وهو ما يتاح لنا أن نعرفه هو ما تكشف عنه الصحافة الإسرائيلية، وغالبا بعد فوات الأوان. ولعل هذه القيادات قد اقتنعت بعد كل لقاءاتها غير المعلنة مع رئيس الوزراء الإسرائيلى أن إسرائيل هى فى لحظة نشوة الانتصار التاريخى على كل العرب، وليست على أدنى استعداد لتقديم ما تعتبره تنازلا لمطالبهم، مهما كانت مشاعر الود التى أصبحوا يكيلونها لها، وعلنا فى بعض الأحوال.

***

أما ما يمكن للحكومات العربية أن تقوم به فيأتى فى مقدمته رفع القيود على حرية التعبير لمجتمعاتها بالنسبة لقضية القدس، والمفروض ألا تكون هناك قيود على حرية التعبير بصفة عامة وفقا لما صدقت عليه هذه الحكومات من صكوك دولية وما جاء فى دساتيرها. فقوة تعبير الرأى العام عن موقفه من هذه القضية هى سند للحكومات، ونفى صارخ لما تدعيه الإدارة الأمريكية من أن القادة العرب لا يأبهون بالرأى العام فى بلادهم، وأنهم يسيطرون تماما عليه. خروج المظاهرات الشعبية الحاشدة دفاعا عن عروبة القدس هو سند قوى للحكومات التى أعلنت رفضها للقرار الأمريكى. وسوف يكون من المخجل للحكومات العربية أن تخرج هذه المظاهرات فى تركيا ودول إسلامية بل وغربية ولا يوجد صدى لهذه الاحتجاجات فى الدول العربية. وفى الحقيقة ينبغى توجيه التحية لمن وقفوا على سلالم نقابة الصحفيين ومن خرجوا من الأزهر الشريف يعترضون على القرار الأمريكى لشجاعتهم. وليس من المفهوم احتجاز الشرطة للبعض منهم لمجرد أنهم شاركوا فى هذه المظاهرات.

***

وعلى الصعيد العربى يقتضى واجب التضامن مع الشعب الفلسطينى مساندة نضاله المشروع ضد الاحتلال الإسرائيلى، وإحدى صور المساندة وقد تكون أهمها فى الوقت الحاضر هى ممارسة الضغوط على القيادات الفلسطينية لكى تمضى على طريق إنهاء الانقسام، فليس ما هو أسوأ على الشعب الفلسطينى فى هذا الظرف الدقيق من استمرار الفرقة التى تتخذها إسرائيل حجة لرفض التزحزح عن مواقفها المتشددة.

كما يمكن على الصعيد العربى ممارسة ضغوط اقتصادية ودبلوماسية على الولايات المتحدة وبما لا يعود بأى ضرر على الدول العربية. عاد دونالد ترامب إلى الولايات المتحدة فرحا بعد زيارته الأخيرة للمملكة العربية السعودية ومعه تعاقدات بعشرات البلايين من الدولارات عقودا وقعتها حكومات خليجية لشراء سلاح من الولايات المتحدة أو للاسثمار فيها، أملا ربما أن يشجع ذلك الولايات المتحدة وإسرائيل على شن هجوم على إيران. ليس هناك أى بادرة على أن الولايات المتحدة تزمع أن تقوم بعمل عسكرى ضد إيران لأن إيران تملك من وسائل الرد على المصالح الأمريكية وإسرائيل ما يجعلهما يترددان كثيرا قبل الإقدام على مثل هذا العمل. ولذلك فلا يضير السعودية مثلا أن تمتنع عن طرح أسهم شركة أرامكو فى سوق الأوراق المالية فى نيويورك. وهو ما سال له لعاب ترامب عندما سمع بذلك. ويمكن للسعودية طرح هذه الأسهم فى فرانكفورت مثلا مكافأة لألمانيا على تحفظها على قرار الرئيس الأمريكى. وسوف تكون تلك رسالة مهمة يفهمها ترامب جيدا بخلفيته فى مجال الأعمال. 

كما يمكن للحكومات العربية أن ترفض استقبال مايكل بنس نائب الرئيس الأمريكى فى زيارته القادمة للشرق الأوسط. هو فى الحقيقة، وهو العنصرى المحافظ المتعصب، يريد استغلال هذه الزيارة لدعوة الحكومات العربية لحماية الأقليات الدينية، وذلك بعد أكثر من قرار لإدارته ينضح بتعصبها ضد المسلمين. وإذا كان سيطرح فى هذه الزيارة أفكارا لتسوية محتملة للصراع الفلسطينى الإسرائيلى، فلم تعد لإدارته أى مصداقية بكونها وسيطا أمينا بين الطرفين.

وأخيرا لا ينبغى تجاهل إمكانية أن تحذو بعض الدول حذو الرئيس الأمريكى وتنقل سفاراتها من تل أبيب إلى القدس. رجحت بعض التفارير الإعلامية أن يكون ذلك ما ستسلكه بعض حكومات شرق أوروبا مثل تشيكيا والمجر وبولندا وهى حكومات يقودها متعصبون ضد العرب والمسلمين، أو بعض الحكومات الإفريقية التى تتمتع فيها إسرائيل بنفوذ واسع مثل غانا وتنزانيا.

لا نطلب الكثير من الحكومات العربية فى هذا الموقف الدقيق. وما طرحناه فى هذا المقال هو أقل القليل حتى تنفى عن نفسها ما ذكرته مصادر أمريكية من أنها باركت فى السر قرار الرئيس الأمريكى.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved