الإسكندرية.. حزن لا ينتهى

خولة مطر
خولة مطر

آخر تحديث: الثلاثاء 11 يناير 2011 - 9:48 ص بتوقيت القاهرة

 توقفت بين التحية والتحية والقبلة والقبلة مع الساعة الأخيرة من ذاك العام الملتحف بالأدعية والصلوات بأن يكون القادم أجمل، أرحم، أسعد، وأكثر صحة وأقل تعبا.. كنا نرسل الدعوات ونحن أمام شاشات التلفزة نرى كيف يحل العام أولا بأول من استراليا مرورا بسنغافورة حتى أضواء دبى وألعابها النارية وأبراجها الأعلى فى العالم!!!

شيئا فشيئا وحين حل العام هنا على هذا البلد المسترخى بين النهر والبحر.. ماء رقراق هنا ومغمس بالملح هناك.. هنا بدأ العد عشرة، تسعة، ثمانية، سبعة، ستة، خمسة، أربعة، ثلاثة، اثنان، واحد، صفر.. وفيما عدنا للقبلات والأدعية بعام سعيد اخترق صمت الفرح المنتظر دوى تراكمات تلك الرسائل من الحقد والجهل المتناثرة، جاء الخبر الأول «تفجير لكنيسة القديسين بالإسكندرية»..

فجأة تحول الجو العام بكل مصر إلى ذهول .. الإسكندرية ليست بغداد ولا هى بيروت ولا كابول طبعا.. الإسكندرية الحضن الدافئ لكل المتوسط لسنين طالت.. تلك التى لم تكن تعرف من هو الطليانى من «الجريكى» من المصرى من اللبنانى...الخ.. لا يمكن أن تنضم لتلك القائمة الطويلة منها.. من مدن الانغلاق والظلمة الحالكة فى نهاراتها المشرقة!

ساد الصمت الذى بددته صرخات المصلين المفجوعين ونواح الآخرين الذين كانوا قبل لحظات فى حضن الخشوع تحولوا إلى بحر من الدم وبقايا أشلاء لأجساد ندية لا يزال دفء الفرح القادم من هكذا لحظات يطريها.. هنا سقطت أو انتهت الإسكندرية التى كانت مدينة المدن المزينة ببهجة الكون.. أصبح ليلها ونهارها القادم شديد الظلمة..

مدينة النور أصبحت مدينة للظلام! ربما ليست هى الوحيدة ولكنها حتما ليست الأخيرة! علينا أن نبدأ فى عد مدننا العربية التى فقدت إنسانيتها، آدميتها بل ما تبقى لها من نسيج مزخرف بكل الأديان واللغات والثقافات.. مدن اللون الواحد.. مدن منقبة بجهلها وكثير من حقد رسمته للآخر الذى رغم قربه أصبحت تجهله حد الكره!

لا يمكن أن نجزم من فعلها.. لا يهمنا من الذى صنع العبوة المحملة بكل ذاك الكم من مسامير الكره.. ولا حتى من حملها وأوصلها ولا اليد التى ضغطت على الزر أو ربما لبست الحزام الناسف.. فقد كان ما كان ووقف الجميع يستنكر ويندد ويرفع شعار الهلال مع الصليب وهذه بالطبع مشاعر جميلة فى زمن القتل على سطر فى الهوية يحمل صفة الديانة أو الطائفة أو اللون أو العرق أو القبيلة أو... أو.... الأهم ألا نعود بعد أن تجمد الدموع فى الأجفان إلى بلادة الأيام أو روتين اللحظات دون الالتفات إلى الجو العام الذى سيطر على المشهد منذ سنين عديدة..

فهذا محصول لبذرة غرست منذ زمن طويل.. لا يمكن ان تخلق بذرة نبذ الآخر ورفضه سوى إلى مزيد من العزلة الذى يتحول إلى كثير من التربص ثم الخوف من الآخر وخلق عدو وهمى ومن بعد ذلك حقد بعد حقد.

شىء ما يغلف الإسكندرية إلى زمن طويل.. هذا حزن لا ينتهى عند الدمعة الأخيرة والصرخة الأخيرة.. بل هو يأمل أن نتوقف جميعا أمام مرآة عملاقة تعكس 22 بلدا بملايين البشر.. مرآة بحجم هذا الذى نسميه عالمنا العربى.. مرآة تعكس ما تحت المشهد الأول والصورة المنمقة لمدن ناطحات السحاب والشوارع العريضة والعربات الفاخرة وبيوت الخمس نجوم الملاصقة لمدن الصفيح التى تفصلها أسوار من الجدران والحرس وتبعد عنها أعين المراقبة وكأنها، أى بيوت الفقر تلك، لا يسكنها بشر بطموحات وأطماع وتوقعات وتحطمت جميعها أمام طوابير البطالة اللامتناهية والخدمات المنعدمة والأمن المتلاشى وغرف تتراص فيها الأجساد حتى التماس وخطب ومواعظ من نصبوا أنفسهم مراجع فى رسم خطوط الحياة والموت وصوروا الحياة الأخرى بكثير من حور العين وانهار من الخمر وكثير من الملذات الحسية المحرمة الآن.

لن تجف دماء شهداء كنيسة القديسين حتى نعترف بأننا من قتلناهم.. نحن جميعا ممن قبلنا ووافقنا وسكتنا وربما تجاهلنا ماكينة التجهيل والكره ونبذ الآخر باسم الدين والعقيدة.. ربما قد حان الوقت لنقف أمام أنفسنا نحاسبها قبل الآخرين لأننا كنا الشهود على حجاب العقل والتنوير.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved