عن الإسلاميين والسلطة .. كيف تغيب فلسطين عن الشعار الديمقراطى؟

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الأربعاء 11 يناير 2012 - 9:10 ص بتوقيت القاهرة

يعانى المواطن العربى ــ بأكثرياته المسلمة ــ من خلل فاضح فى علاقته بتنظيمات الإسلام السياسى.

 

لقد نشأ وهو يحمل لها صورة غير محببة تبدأ من شكليات كالقيافة المميزة واللحى وصولًا إلى السجن الذاتى للمرأة فى لباسها الذى يظهرها أسيرة دهور التخلف والخوف من الشمس، وتنتهى فى الطروحات السياسية الملتبسة التى كثيرًا ما أساءت إلى هذه التنظيمات إذ أظهرتها وكأنها خارجة على هوية الأمة، لا هى تقر بالوطنية ولا هى تقبل بالعروبة هوية جامعة.

 

على مر السنين، وعبر معارك المواجهة مع القوى الاستعمارية، ثم فى معارك الاستقلال الوطنى وإقامة الكيانات السياسية، كانت التنظيمات الإسلامية مشغولة بأمور أخرى، بينها ترميم الخلافة الإسلامية (العثمانية) او إقامة خلافة أممية جديدة، وفى كل الحالات المناداة بالإسلام هو الحل، حيث تكون المعارك السياسية محتدمة ويضيق مجالها الفكرى او ميدانها العملى عن استيعاب الدين بتنوعاته الفقهية ومنطلقاته وقواعده المطلقة التى لا تتناسب مع مجتمعات قائمة على التعدد وحق الاختلاف.

 

●●●

 

حتى فى قضية فلسطين والصراع الذى ما زال مفتوحًا مع المشروع الإسرائيلى الذى هو حصيلة مخطط دولى اجتمعت على إعداده دول كبرى وهيئات ومنظمات اجتماعية وفكرية ترفدها رساميل أممية هائلة، اختار الإسلاميون التركيز على الجانب الدينى لهذا المشروع السياسى الخطير، موفرين بذلك مزيدًا من المبررات لحرب دينية، فى حين انها ــ بداية وانتهاء ــ حرب مصالح استراتيجية تهدف إلى فرض هيمنة مديدة على الأرض العربية الغنية بموقعها ومواردها، وان ظل لها شميم دينى آت من الماضى أكثر مما هو متصل بالحاضر، واستطرادًا بالمستقبل.

 

ها نحن الآن نشهد ما يمكن اعتباره اجتياح الماضى لمستقبل هذه الأرض العربية، بالاتكاء على مساندة معلنة من قبل القوى العالمية الكبرى فى مواجهة التيار الوطنى ــ القومى التقدمى فى العديد من الأقطار العربية التى أعادتها الانتفاضات الشعبية إلى الحياة.

 

لا يتصل الأمر بمناقشة حق الإسلاميين، كقوى سياسية ذات وجود فاعل فى معظم المجتمعات الإسلامية، فى ان يصلوا بالانتخابات إلى السلطة. ذلك يتنافى مع بديهيات الإيمان بالديمقراطية المجسدة بارادة الشعب.

 

لكن المسألة تتصل ببرنامج الإسلاميين على تنوعاتهم الاخوانية والسلفية، سواء بصيغتها التقليدية القديمة ام بصيغها الجديدة المحسنة بالحذف والإضافة، كما فى الطبعة التركية التى يراها البعض «معاصرة» ويمتدح نجاحات مؤسسيها ودعاتها والحاكمين باسمها فى تقديم «نسخة حضارية» يقبلها الغرب بل ويزكيها، بديلًا من النسخة القديمة المتخلفة، فى تقدير الجمهور المخاصم للتوجهات الإسلامية.

 

ولان قضية فلسطين، وبالتالى الاحتلال الإسرائيلى للأرض والقرار، تفرض نفسها على الحاضر العربى، ومن ثم على المستقبل، كما فرضت نفسها من قبل على الماضى، فإنها تتصدر أسئلة الامتحان الفعلى لبرنامج الإخوان المسلمين وهم يتقدمون إلى موقع القرار وسلطته فى أكثر من بلد عربى.

 

على هذا فالنموذج التركى لا يوفر الإجابة المطلوبة لمن يبحث عن الغد الأفضل: غد التحرر واستقلال الإرادة والحق فى بناء تجربة مميزة على قاعدة احترام كرامة الإنسان ومنعة الدولة وتقدم المجتمع.

 

إذ لا تختلف تركيا تحت الحكم الإسلامى (الاخوانى) فى جوهر سياساتها تجاه إسرائيل، واستطرادًا تجاه الغرب الداعم والحامى للمشروع الإسرائيلى، عنها فى ظل الحكومات التى كانت تعتمد نهجًا مغايرا بل مناقضًا تماما فى سياستها الداخلية، الاقتصادية ــ الاجتماعية، لنهج حكومة اردوغان.

 

ما زالت تركيا عضوًا رئيسيا فاعلًا فى الحلف الأطلسى، ولا تزال القواعد الأمريكية فيها، ولا تزال علاقاتها السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية مع إسرائيل ممتازة ومميزة، حتى ان الهجوم العسكرى الإسرائيلى المتوحش على باخرة الحرية حاملة المساعدات إلى غزة المحاصرة، بكل من أسقطه من ضحايا وألحقه بكرامة تركيا من مهانة، لم يؤثر على جوهر هذه العلاقات وآفاقها المستقبلية التى يرى فيها بعض العرب اجتماعًا عليهم ومحاصرة لتطلعاتهم فى اتجاه التحرر والتحرير بدءًا بفلسطين وانتهاء بالمستقبل جميعًا..

 

●●●

 

بالمقابل فقد غاب أى ذكر لفلسطين عن برامج الانتفاضات المنتصرة، كما فى تونس وليبيا (؟)، وكذلك عن الحملة الانتخابية الناجحة للإسلاميين فى مصر، ناهيك ببرنامج الحكومة المغربية الجديدة التى يشكل فيها «الإسلاميون» الكتلة الوازنة وربما المرجحة.

 

ولقد لاحظ المتابعون حماسة شديدة لدى رموز الحكم الجديد فى تونس للمعارضة السورية حين استضافوا مؤتمرها، واستمعوا اليهم وهم يشنون حملة شعواء على النظام فى سوريا.. ومع التفهم لهذا التعاطف من على البعد بين قوى لا تعرف بعضها بعضا حق المعرفة، ولا يجمعها ــ من حيث المبدأ، واذا ما استثنينا العلاقات الداخلية لبعض الاخوانيين ــ هدف سياسى مشترك، فإن التوحد فى الموقف من نظام سياسى معين، وبغض النظر عن ممارساته القمعية تجاه شعبه، لا يكفى لبناء جبهة نضالية تتجاوز القارات بدولها وسياساتها، وتقفز من فوق اسرائيل، وبالتالى قضية فلسطين وحقوق شعبها فيها، لتتخذ موقفًا من «نظام» لا يشكل سقوطه بندًا فى برنامج الحكم التونسى الإسلامى الجديد.

 

وهنا يصبح للقاء المسئولين التوانسة الجدد مع رموز الطائفة اليهودية فى تونس، دلالات تتجاوز التسامح الدينى.. خصوصًا أنه لم يصدر عن السلطة الجديدة ما يفيد بالقطع مع السياسة التى اعتمدها الطاغية بن على متمثلة فى إقامة تمثيل دبلوماسى مع إسرائيل.

 

كذلك فقد صدر عن ممثلين للسلطة الجديدة فى ليبيا، مجهولة الهوية والمؤقتة دائمًا والمنقسمة على ذاتها والمهددة بالتبعثر، ما يؤكد الالتزام بالشريعة حرفيًا وصولًا إلى الحجاب، ورطنوا بالإنكليزية وهم يعلنون شكرهم محرريهم بقيادة الحلف الأطلسى، وتقبلوا مباركات وزيرة الخارجية الأمريكية السيدة هيلارى كلينتون، لكن احدًا منهم لم ينطق كلمة فلسطين علنًا، ولا أشار إلى إسرائيل ولو إشارة عابرة.

 

●●●

 

ونصل إلى مصر وحقيقة ان «ميدانا» فيها قد صنع الثورة وأسقط رأس النظام، وان «ميدانا» آخر كان يعقد الصفقات مع الرأس المؤقت للنظام ليؤمن المناخ الذى يمكنه من جنى ثمار الانتفاضة التى لم يكن من أطلقها، ولكنه كان الأقدر على الإفادة من مناخها لتحقيق نصر سياسى باهر لم يكن ليتحقق له لولا «التواطؤ» شبه المعلن مع المجلس العسكرى، بدءًا من الفتوى حول تعديل الدستور وتسلسل عملية بناء المؤسسات، وصولًا إلى الانتخابات الرئاسية.

 

ومع التسليم بحق من اختارته الأكثرية ليمثلها فى المجلس النيابى، عبر انتخابات حرة يملك الإسلاميون عدة اجتياحها بشعاراتهم وحسن تنظيمهم وقدرتهم على استقطاب عامة المؤمنين، والاهم: بامكاناتهم المالية المحترمة، وعبر استخدامهم فزاعة البديل: اما الشيوعى الكافر، واما السلفى الهمجى والمتخلف..

 

ومع التسليم بكفاءة الإخوان المسلمين فى الإفادة من الفرص المتاحة، ومن قصور الوعى السياسى عند العسكر، ومن ثمار الانفتاح الامريكى على الحركات الإسلامية التى تخلت عن عدائها للإمبريالية والسياسة الأمريكية والغربية الداعمة للاحتلال الإسرائيلى لفلسطين.

 

مع التسليم بذلك كله فلابد من الإشارة إلى ان التنازلات التى قدمها الإسلاميون للإدارة الأمريكية، ولإسرائيل تحديدًا ومشروعاتها التوسعية إلى لا تستثنى لا القدس ولا المسجد الأقصى خاصة، لا تبقى اية قيمة سياسية ــ بالمعنى الوطنى، فضلًا عن القومى ــ للشعارات التى خاض بها الإخوان الانتخابات، والتى كانت بمجملها «محلية» او «أممية» وليست من منطقة وسط تحدد الهوية والقضية، وبالتالى فقد سقطت فلسطين بشكل متعمد تجنبًا لاستفزاز إسرائيل وواشنطن.

 

فى البداية ظهر انحراف أولى عبر أحاديث لبعض رموز السلفيين عن الالتزام المطلق بمعاهدة كامب دايفيد ومقتضيات الصلح مع العدو الإسرائيلى.

 

وحين وجه هذا الانحراف بانتقادات خجولة تحفظ الإخوان فهربوا من تحديد أى موقف، حتى إذا جاءت الإشارة الأمريكية اندفعوا يجهرون بالقول ان ليس فى برنامجهم إعادة النظر فى معاهدة الصلح المنفرد مع إسرائيل، وامتنعوا عن تصنيف إسرائيل كعدو. ثم إنهم لم يقولوا حرفًا واحدًا عن ضرورة وقف النهب الإسرائيلى للبترول والغاز المصرى، حتى لا يخدشوا عفاف معاهدات الصلح المنفرد.

 

●●●

 

هل ما يطالعنا الآن فى الدول العربية بشمالى أفريقيا خصوصًا، نسخة أخرى معدلة من الإسلاميين، ليس فيها ما كان لدى القدامى منهم من منحى جهادى يتخذ من فلسطين عنوانا له؟!.

 

لقد كان الإسلاميون، تاريخيًا، معادين للقومية، ويعتبرونها بدعة استعمارية اقتبسها بعض المضللين من العرب عن مستعمريهم ليخرجوا على الخلافة والسلطان العثمانى، ولهذا نادوا بخلافة عربية ثم عدلوا فجعلوها مفتوحة أمام امة الإسلام عامة.

 

ولكن الإسلاميين، أو معظمهم، كانوا معادين للصهيونية وبالتالى لإسرائيل، وقد قاتلوا تحت راية فلسطين ولهم فيها شهداء.

 

هل متى صار الخيار بين السلطة وفلسطين تصير المفاضلة صعبة حتى التخلى عن القضية المقدسة؟!

ولماذا السلطة، إذن، إذا ما جاءت كمنحة امريكية شرطها الأول التخلى عن القضية، أى عن الهوية. والإسلام فيها؟!

 

ذلك هو السؤال المطروح على إسلاميى السلطة الجديدة فى مصر وتونس وليبيا والأقطار الأخرى التى تموج بالثورة لأهداف تتجاوز السلطة إلى جوهر القضية.

 

ففلسطين قضية داخلية فى مصر كما فى كل بلد عربى... وأبسط الأدلة امتلاء الجدران فى المدن والأرياف بصور الشهداء الذين قاتلوا حتى الاستشهاد لحماية الاستقلال والثروة الوطنية والحق ببناء غدٍ أفضل ابرز عناوينه تحرير الإرادة كمدخل لتحرير الأرض والثروة الوطنية وبناء الديمقراطية فى ظل نظام يحمى حرية استقلال الدولة وقرارها المستقل.

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved