الحاجة العربية لمراكز الدراسات الأمريكية

محمد المنشاوي
محمد المنشاوي

آخر تحديث: الخميس 11 يناير 2018 - 10:35 م بتوقيت القاهرة

تلعب واشنطن دورا كبيرا فى كل قضايا المنطقة العربية، وشئنا أم أبينا تحدد هذه الأدوار مصير ومسار الكثير من التطورات الجارية والمتسارعة من حولنا. ويسهم ضعف قدرات أغلب الحكام فى عدم فهم تعقيدات المشهد السياسى الأمريكى، وتكتفى هذه النخب بالتعامل مع مخرجات ونصوص القرارات الأمريكية المهمة دون التعرض لكيفية صنع هذه القرارات وربما إمكانية التأثير فيها.

أمريكا، سواء كان على رأسها باراك أوباما أو جورج بوش أو حتى دونالد ترامب، تلعب أدوارا مهمة سواء فيما يتعلق بقضايا أمن الخليج، أو مستقبل الحكم السعودى أو مستقبل العراق أو حتى التأثير فى مخرجات الأزمة السورية. دور واشنطن فى ما يحدث فى سيناء شديد الأهمية، وكذلك دورها فى ليبيا وبالطبع الصراع العربى الإسرائيلى. وحتى بعيدا عن القضايا السياسية العربية، تخرج من أمريكا دعوات لا تتوقف حول قضايا الإصلاح السياسى والاقتصادى فى الدول العربية، ناهيك عن الدعوات المتزايدة أخيرا عن ضرورة إجراء عملية إصلاحية داخل الإسلام نفسه وعلى العرب البدء بها.

***

وهناك سجالات ونقاشات لا تتوقف عن السبب فى غياب وجود مراكز متخصصة جادة فى دراسة الشئون الأمريكية فى الدول العربية. وعلى الرغم من تأكيد البعض أن هناك عدة مراكز للدراسات الأمريكية، منها ذلك الموجود فى جامعة القاهرة أو ذلك الموجود فى دولة الإمارات، أو ما يقع فى الجامعات الأمريكية سواء فى بيروت أو القاهرة، فإنه يمكن ببساطة وضع معظمهم فى خانة الأموات نظرا لعدم وجود أى تأثير حقيقى لهم. ويعد استمرار غياب وجود مراكز دراسات متخصصة فى الشئون الأمريكية ظاهرة غامضة لا يمكن فهمها، كون ذلك يمثل فجوة خطيرة لا تصب فى خدمة مصالحنا المباشرة، ولا يتفق مع مسعى دول عربية ونخب وتجمعات رجال الأعمال والمال فى علاقات أفضل مع واشنطن.

ويعتبر غياب وجود فرق شابة من الباحثين العرب، تنحصر مهمتهم الأساسية فى التخصص فقط فى الشئون الأمريكية، فراغا استراتيجيا خطيرا ندفع ثمنه كل يوم.

فى الوقت نفسه تمتلئ واشنطن بمن يطلق عليهم صوابا أو خطأ خبراء وباحثون فى الشئون العربية بصفة عامة والمتخصصون فى الشئون المصرية والشأن السعودى أو العراقى، ويتمتع هؤلاء بنفوذ كبير فى تشكيل العلاقات العربية الأمريكية بما يدرسونه ويقدمونه فى صورة تقارير أو بدائل لسياسات تتعلق بالتعامل مع قضايا المنطقة لصانعى القرار الأمريكى، كما أنهم يساهمون فى تشكيل فهم الشعب الأمريكى لقضايانا من خلال ظهورهم المتكرر فى وسائل الإعلام الأمريكية.

***

هناك فى الولايات المتحدة من يدرس ويُدرس نظام اختيار العمد فى صعيد مصر، ومنهم من درس روايات أمين معلوف وعبدالرحمن منيف، ومنهم من يدرس نظام محاكم السر فى المغرب، ومنهم من يركز على المجتمع المدنى التونسى أو نظام القبيلة فى ليبيا. ويراكم كل هذا معرفة متخصصة قوية بالشئون العربية، أما نحن فقد اختزلنا معارفنا بالولايات المتحدة فى محاولة فهم سياساتها فى فلسطين والعراق وربما الخليج.

أما نحن فلم نخلق الجماعة الثقافية التى تعرف أمريكا حقا.

لماذا لا توجد مراكز أبحاث متخصصة تضم عشرات وربما المئات من الباحثين والمتخصصين فى الشئون الأمريكية من المتفرغين، ممن يمكن تجميعهم من جهات عديدة على رأسها الجامعات العربية، أو من بين آلاف العرب ممن تلقوا تعليمهم هنا فى الولايات المتحدة؟

يتفرغ هؤلاء الباحثون بعد أن يتم تقسيمهم جغرافيا للتخصص فى عدد معين من الولايات الأمريكية الخمسين، ودراسة موضوعات أمريكية محددة من بين الأديان أو السينما أو الأقليات أو الكتاب أو الإعلام أو التكنولوجيا أو الكونجرس أو السينما وصنع القرار السياسى.. إلخ.

وينتظم هؤلاء الباحثون فى عملهم البحثى بصفة يومية مستقرة ودائمة، ويحتكون بالولايات التى سيتخصصون فيها (نعم يجب أن يكون هناك متخصصون فى ولاية كاليفورنيا أو ولاية أوكلاهوما!) ويتواصلون مع جامعاتها، ويتعرفون على وسائل الإعلام المحلية بها، وبأهم شركاتها ومؤسساتها وسياسييها. وتتيح «مراكز الدراسات الأمريكية المفترضة» لباحثيها فرص السفر والمشاركة فى برامج دراسات فى جامعات تلك الولايات ومراكزها البحثية.

وبعد فترة قصيرة من الزمن (سنتين مثلا) ستبدأ هذه المراكز فى تقديم رؤى موضوعية وغير حكومية تتعرض للعديد من القضايا العربية الأمريكية غير المفهومة لنا والتى يجب أن تبدأ بفهم عميق متأصل للداخل الأمريكى.

***

وعلى الرغم من أن وصول دونالد ترامب إلى سدة الحكم فى الولايات المتحدة قبل عام شكل صدمة لكثير من الناس حول العالم، إلا أن هذا التطور لم يصاحبه صحوة عربية تنادى بضرورة الاستعداد لما هو قادم عن طريق معرفة ودراسة وبحث ما جرى ويجرى فى أمريكا المتغيرة. وجود مراكز أبحاث عربية متخصصة فى الشأن الأمريكى ستفيد جهات عربية مختلفة، والبداية من الجهات الحكومية المتعددة التى تتعامل مع واشنطن، إلى تجمعات رجال الأعمال التى لهم مصالح واضحة هنا وهناك، والإعلام الذى سيتوفر له خبراء حقيقيون فى الشأن الأمريكى. ويجب الابتعاد عن الطبيعة «الموسمية» للمراكز الجديدة وأن تعمل بصورة دائمة بعيدا عن مناسبة معينة أو مبادرة مؤقتة. وستتمتع جهود هذه المراكز الجديدة بطبيعة «مؤسسية مستمرة»، وتبتعد عن جهود «العلاقات العامة المؤقتة» التى يقوم بها الكثيرون ممن لهم علاقات مع الولايات المتحدة.

إلا أنه لا يجب سجن فرق العمل البحثية العربية فى إطار الاطلاع والمعرفة النظرية فقط، ومثاليا سيتم الاستعانة بهم من جهات حكومية أو الجهات الأكاديمية والتجارية أو مؤسسات الأعمال الكبيرة من أجل الاستفادة المباشرة بهم، وهذا النموذج موجود بوضوح فى الولايات المتحدة، إذ إن الباحث يعمل لعدة سنوات فى الحكومة أو جامعة أو مؤسسة أعمال، ثم يعود للعمل البحثى مدعما بثراء الخبرة العملية والحكومية.

علينا المبادرة والتخلص من الخوف المتحكم فى تعاملنا مع الولايات المتحدة، وأن نبدأ قدر المستطاع بمحاولة المشاركة والتأثير فى عملية صنع القرار السياسى الأمريكى، وأولى هذه الخطوات وأهمها هى وجود الكثيرين من المتخصصين والفاهمين للشأن الأمريكى بتفاصيله وخباياه.

وفى النهاية علينا عدم الانغلاق فقط على دراسة وفهم الولايات المتحدة، الصين وحدها أيضا تستحق مراكز بحثية مستقلة، وكذلك القوى الصاعدة فى عالم اليوم من حولنا مثل البرازيل وجنوب أفريقيا وتركيا والهند التى ما زلنا لا نعلم الكثير عن تجاربهم الحقيقية.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved