جنازة فلان الفلاني

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: السبت 11 يناير 2020 - 9:20 م بتوقيت القاهرة

لدفن الموتى طقوس، ونصوص، ودلالات. وهناك متعة في متابعة الجنازات الرسمية والشعبية أو جنازات الشخصيات العامة على الهواء مباشرة، أو على الأقل هكذا يبدو من احصاءات المشاهدة على مدار السنين والتي تثبت أن الجنازات المتلفزة لا يقل الإقبال عليها عن برامج أوقات الذروة المعروفة "بالبرايم تايم". تابعنا مؤخرا جنازة وطقوس دفن قائد فيلق القدس الإيراني، قاسم سليماني، ورفاقه، الذين تم استهداف موكبهم بواسطة صواريخ أمريكية في العراق، ثم صار التوعد بالرد من قبل إيران، مما جعل لطقوس الموت أهدافا وإشارات سياسية أبعد، أخذ البعض في تفسيرها وكيف استخدمت للتأكيد على لحمة الشعب والقيادة المجتمعين على حب من رحل، وتصدير صورته "كبطل قومي"، مهما اختلف العالم حوله. وجاءت دموع خامنئي ودعاؤه بالعربية متوجها إلى متحدثيها في مناطق نفوذه وغيرها، ومن بعدها كلمات حسن نصرالله في خطابه، لدعم المعنى نفسه وحشد الناس من كل حدب وصوب حول فكرة الثأر، خاصة عندما قال هذا الأخير: "سليماني مات بلا رأس كالحسين، وبلا يدين كالعباس، وجسده مقطع إربا كعلي الأكبر". رسائل وتنفيس غضب وحزن تشاركي ومشاعر تورط... ربما يكفي ذلك للدلالة على أن المصاب جلل، دون الحاجة إلى المزيد.
***
تتشابه الجنازات المتلفزة، وإن اختلف المتوفي. نفس طرق البروباجندا والبلاغة الكلامية والمسرحية التي تشي بالكثير حول طبيعة نظام الحكم وميراثه وشرعيته. الورود والأعلام التي تغطي المركبات الحربية على الطريقة الستالينية، وجوه الأفراد التي حضرت الجنازة، وتأثر العامة كأنهم كومبارس بعضهم ناطق وبعضهم صامت، الموسيقى المختارة لمرافقة الجثمان وما يصحبها من هتافات وهمهمات وأدعية، الرغبة في لمس التابوت أو المشاركة في حمله، تكرار الحركة ورتابتها وكأننا في جلسة تنويم مغناطيسي، الانتظار الطويل، كلها عوامل كفيلة بأن تحول "طاغية" إلى "بطل" خاصة إذا مات مغدورا، وتنسي الكثيرين مثالبه ولو لحين، كأننا في هدنة. وهي أيضا في أوقات كثيرة علامة على أننا نمضي إلى مرحلة أخرى وأن صفحة قد انطوت.
عندما نفكك المشهد ونحلل جنازات مختلفة ونقارن بينها تزداد متعة الباحث مع متابعة الصور المتلاحقة. وهو ما حدث معي مؤخرا عند مشاهدة فيلم وثائقي عن جنازة ستالين بعنوان State Funeral (جنازة رسمية)، عرض خلال مهرجان الجونة الأخير، وهو للأوكراني سيرجي لوزنيتسا الذي أخرج أربعة أفلام روائية وعشرين وثائقيا من أشهرها " الميدان" عام 2014. ثم تكرر الأمر عند مشاهدة مراسم دفن وجنازة سليماني، فتداعت الصور واستدعيت رمزية الفيلم الذي اعتمد على لقطات أرشيفية بعضها بالألوان تم الكشف عنها مؤخرا لتصف لحظات موت "الإله" ستالين... ومن بعدها صارت اللقطات الأرشيفية لجنازات ناصر وأم كلثوم وعبد الحليم وليدي ديانا والأم تيريزا وغيرهم تتدافع إلى ذاكرتي، ومعها استدعاء لظروف وملابسات إقامتها.
***
كان الجمهور يتملل في قاعة السينما خلال عرض فيلم "جنازة رسمية" للوزنيتسا بسبب طول مدته وتكرار المشاهد والحركة البطيئة، وكنت أفكر طوال الوقت أن هذا الفيلم يجب أن يدرس بجمالية صوره التي طغى عليها اللون الأحمر القاني لطلبة علم الاتصال السياسي مثله مثل فيلم "أوليمبيا" عن أوليمبياد برلين عام 1936 للمخرجة الألمانية الحسناء ليني ريفنشتال المقربة إلى هتلر، فهذه النوعية من الأعمال هي مثال لأفلام الدعاية السياسية عن جدارة. نرى في "جنازة رسمية" كيف استخدمت طقوس الموت لخلق شعور باليتم لدى الشعب، حتى في صفوف معارضي ستالين. الشخصيات الرسمية تتوافد على المطار والنصب التذكاري، والورود الحمراء ترمز إلى الحب الأبدي للزعيم الذي وافته المنية في مارس 1953 عن عمر يناهز 74 سنة.
بعد كل هذه السنوات لاتزال هذه الصور جديرة بالمشاهدة والدراسة، وهي دليل حي على كيف تخلق النظم الشمولية أساطيرها على أنغام موسيقى موتسارت وشوبان وشوبرت، وكيف يتم استقبال هذه الصور الدعائية من قبل الجماهير الغفيرة التي تودع شخصية ما إلى مثواها الأخير.
تتحول الجنازة إلى تجربة جماعية، يشعر كل من شارك فيها أو شاهدها في التليفزيون أنه فقد عزيزا أو شخصا مقربا، و تصبح فكرة الموت أقل تجريدا، كما لو أننا في حاجة إلى ذلك. ويساهم بالقطع البث المباشر في إذكاء تلك المشاعر، فما بالك بالحضور الذي يتم توظيفه بحرفية من قبل الذين يخرجوا الجنازة بهذا الشكل. تتدافع الجماهير التي أتت بالملايين لوداع أحد الأيقونات السياسية أو الفنية، إلى ما غير ذلك، يصاب البعض ويلقى البعض حتفه في سبيل هذا الوداع الأخير. ويظل المشهد مسرحيا للغاية ومتكررا. ونظل نحن ورثة الموت، والجنازة هي مجرد هدنة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved