الاستنزاف السياسى المتبادل: مَنْ يربح الآخر؟

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الإثنين 11 فبراير 2013 - 9:30 ص بتوقيت القاهرة

تتمدد هواجس الأزمة المصرية إلى مستقبلها، وتنطوى وقائعها على استنزاف سياسى متبادل.. احتمالات حلحلتها معطلة، واحتمالات تصاعدها مرجحة.

 

الاحتجاجات تتواصل، ومراكز الغضب فيها تتحرك من منطقة جغرافية إلى أخرى.. من القاهرة والإسكندرية إلى بورسعيد والسويس والإسماعيلية، قبل أن تصل بؤرتها المشتعلة إلى محافظات الدلتا الرئيسية على ما جرى فى الجمعة الأخيرة. «المتاريس السياسية» تفصل بين مستقبلين لبلد واحد.. والحسابات المتناقضة تستدعى مخاوف الاحتراب الأهلى والاغتيالات السياسية والانقلابات العسكرية مصحوبة بانهيارات اقتصادية تداهمنا حقائقها.

 

فى الاستنزاف السياسى المتبادل يراهن الطرفان الرئيسيان، الجماعة والمعارضة، كل بحساباته وبطريقته على «النفس الطويل»، فلا أحد بوسعه أن يحسمها بـ«الضربة القاضية». إنها إذن حرب إنهاك تحسم بـ«النقاط»، والجماعة تذهب حساباتها إلى استنفاد طاقة الغضب بطول الوقت وشيوع اليأس من التغيير طلبا للتسليم بالأمر الواقع، وقد جربت هذه الطريقة مرة بعد أخرى، مررت «الدستور» بلا توافق عليه، وفرضت «النائب العام»، ومنعت «المحكمة الدستورية» من البت فى دعاوى منظورة أمامها، ونقلت الصلاحيات التشريعية لـ«مجلس الشورى» الذى لم ينتخب على أساسها،

 

 

 

وبدأت فى تمرير قوانين حاسمة قبل انتخاب المجلس النيابى، وتوسعت فى الإمساك بمفاصل الدولة ساعية بحقائق الأمر الواقع إلى خوض الانتخابات النيابية بما يلائمها ظنا أن كسبها ينهى الصراع على المستقبل، والمعارضة بزخم الغضب تراهن بدورها على ذات «النفس الطويل»، والأجيال الجديدة التى تتصدر مواجهات الشوارع، فى العشرين من العمر وما حولها، تتملكها فكرة الثورة وخبرتها الرئيسية استمدتها من ميادينها، الجيل الأحدث ليس هو تماما الجيل الذى خاض غمارها قبل عامين، ولا القوى الفاعلة فيه معروفة أو تقف تحت عباءة سياسية بعينها، إنه جيل ولد فى المواجهات التى جرت على التوالى مع «المجلس العسكرى» و«الإخوان المسلمين» و«قوات الشرطة»، تحكمه مثالياته وتضحياته، ودواعيه للغضب يزكيها إرهاب الدولة ووقائع الخطف والتعذيب والقتل العمدى، يقلقه أن تتحول مصر إلى «شبه إيران»، المرشد الحاكم الأعلى ومكتب الإرشاد «مجلس تشخيص مصلحة الأمة»، يؤمن بعمق أنه قادر على أن يفعلها مرة أخرى ويزيح «مرسى» عن الحكم كما فعل مع «مبارك» قبل عامين، لا تعنيه الحسابات الباردة التى تحكم السلطة ومصيرها، ولا الكلام عن التعقيدات الداخلية والإقليمية والدولية، عنده يقينه ويتحرك بمقتضاه والتنكيل به يدفعه لعزم جديد، ومع كل شهيد يسقط أو ضحية تصاب يتجدد العزم على خوض الصراع إلى نهاياته.

 

 

 

ويلفت الانتباه فى بيان أصدرته تنسيقية شباب «الإنقاذ» مع جماعات شبابية أخرى أنه استخدم عبارة: «إسقاط نظام الاستبداد» بديلا عن «إسقاط النظام»، وكان ذلك بعد نقاشات حادة حول الأفق السياسى للاحتجاجات، هل يمكن تكرار ما جرى مع «مبارك» بنفس الكتالوج، أم أن ما هو مطلوب الآن تفكيك نظام الاستبداد لترسيخ قيم الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية؟.. الإجابة الواردة فى البيان تعد تعبيرا عن صيغة وسط لا خيارا أخيرا، فلا خيار يعتد به عندما تكون الغيوم ماثلة عند منحدرات الطرق المسدودة.

 

 

اللافت فى الغضب ومواجهاته الحضور الاستثنائى للمرأة المصرية، كأننا أمام إيزيس جديدة تجمع أشلاء ولدها حورس، تصاعد دورها من تظاهرة إلى أخرى، ومن احتجاج إلى آخر، وكان ذروته فى الاستفتاء على الدستور، وقفت فى طوابير طويلة منتظرة دورها للتصويت بـ«لا»، استنفرت الرجال لاتخاذ الموقف نفسه، ومنعت فى كثير من الأحوال التزوير فى صناديق الاقتراع، وقادت عملية التعبئة العامة، وبدت قوة لا يستهان بها فى حرب استنزاف طويلة، والسبب الحقيقى لعمليات «التحرش الجنسى» الممنهجة والمنظمة والمتكررة فى ميدان التحرير كسر شوكتها والنيل من كرامتها لدفعها إلى الانزواء ومغادرة المشهد كله.

 

 

التحرش تتولاه عصابات منظمة تصل فى بعض الحالات إلى نحو (٥٠) فردا فى العملية الواحدة للاستفراد بالضحية والهروب بلا عقاب، وهذا يشير يقينا إلى جهات تقف خلفه تخطط وتمول، غير أن صلابة المرأة المصرية استدعت إرادتها لإبعاد هواجسها أن تكون مصر «شبه أفغانستان» تهمش حضورها الإنسانى وتلغى دورها العام.

 

 

المعنى هنا أن الغضب يتجاوز المعارضة السياسية إلى الممانعة المجتمعية، وطاقته الرئيسية يستمدها من مصدرين اجتماعيين، الأول: الطبقة الوسطى المدينية، وهى تمثل تقليديا القوة الحيوية فى أى بلد، ومخاوفها تنصرف بالدرجة الأولى إلى صورة المستقبل وطبيعة الدولة فيه، والثانى: الفئات الأكثر فقرا وتضررا من ارتفاع أسعار السلع الرئيسية ورفع الدعم وفرض ضرائب جديدة، ويتجلى غضبها فى الإضرابات والاعتصامات التى توصف بالفئوية التى باتت سمة اجتماعية بعد يناير، والتطورات المتوقعة فى الملف الاقتصادى تدفع بالأزمة إلى منحدرات أخطر، فبعد أن استجابت الحكومة لطلبات صندوق النقد الدولى وبدا أنه على وشك توقيع الاتفاق على إقراض مصر (٤.٨) مليار دولار تراجع مؤجلا التوقيع إلى أجل غير مسمى، وهو قرار سياسى قبل أن يكون اقتصاديا، ومن المرجح ــ حسب معلومات منسوبة لأحد أركانه الكبار ــ أن يؤجل البت النهائى فيه إلى ما بعد أبريل المقبل، ربما لإعادة النظر بمدى الالتزام بشرطين سياسيين اقترنا بالكلام حول القرض، أولهما: التوافق المجتمعى الذى يضمن تدفق الاستثمارات.. وثانيهما: برلمان منتخب وحكومة منتخبة باعتبار أن «الشورى» شرعيته مطعون عليها وحكومة «هشام قنديل» مؤقتة بطبيعتها.

 

 

بالتزامن مع تباطؤ صندوق النقد الدولى فى توقيع الاتفاق النهائى، فإن إحدى شركات التصنيف الإئتمانى الدولى صنفت قبل أيام مصر كدولة متعثرة «شبه اليونان»، وهو يرفع من مخاطر الاستثمار فيها ويضع اقتصادها على حافة الإفلاس، وهذا مؤشر، لمن يتأمل الحقائق حوله، على ثورة جياع ماثلة.

 

 

سيناريوهات المستقبل المصرى مفتوحة على مخاطرها، ثورة جياع واغتيالات سياسية وفوضى واسعة، أو أن يمضى إلى «شبه إيران» فى البنية السياسية و«شبه أفغانستان» فى العلاقة مع المرأة، و«شبه اليونان» فى أحوال الإفلاس الاقتصادى.. وقوى الغضب لا تقف تماما تحت راية «جبهة الإنقاذ» ولا تخرج عليها فى الوقت نفسه، تضغط وتنتقد، وتحملها فوق طبيعتها وطاقتها، لكنها تدرك بالوعى أو الحس ضرورتها للتوازن السياسى العام، والتوازن يحفظ للديمقراطية فرصها فى المستقبل وللدولة قدرتها على التماسك وللثورة جذوتها لتحقيق أهدافها.

 

أفضت فتوى منفلتة بإهدار دم اثنين من قيادات الجبهة، «محمد البرادعى» و«حمدين صباحى»، إلى عكس ما أراد أصحابها، خفضت مستويات التوتر بين الجبهة وشبابها، أكدت شرعية تمثيلها لطاقة الغضب فى البلد كله، وربما أكدت فى الوقت نفسه «ضرورات السلمية»، فعندما يفلت العنف من عقاله فإن البلد داخلة لامحالة إلى احتراب أهلى.

 

 

رائحة الدم فى المكان تطرح سؤالا جوهريا: إلى أين يقودنا الاستنزاف السياسى المتبادل؟

 

 

مشكلة الجماعة مع مجتمعها قبل أن تكون مع معارضيها، وليس بوسع أحد أن يربح معركة يتصادم فيها مع الأجيال الجديدة، وكسرها جريمة تاريخية كاملة، أو مع المرأة المصرية، وانكسارها جريمة أخرى مماثلة، أو مع الطبقة الوسطى المدينية، وهى القوة الحيوية فى المجتمع، وكسرها هزيمة حضارية تفوق أى هزيمة أخرى، أو مع الفئات الأكثر تهميشا، وهى السند الاجتماعى الرئيسى للتيار الإسلامى، وثمن تجاهلها فادح. قد تربح الجماعة تكتيكيا أو مؤقتا، غير أن خسارتها استراتيجيا مؤكدة، فهى على الجانب الخاطئ من التاريخ.. قوى الغضب بدورها ربما لا يمكنها حسم حرب الاستنزاف على ما تتمنى، وربما تتعرض لخسارات أخرى، غير أن تبنيها لقيم الثورة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية انفتاحا على العصر وحقائقه يجعل من أى هزيمة تتعرض لها مؤقتة، وبعض الهزائم أشرف من بعض الانتصارات.

 

 

عند الطرق المسدودة، فإن المسئولية الأولى يتحملها رئيس الجمهورية، وهو بنفسه بات عنوانا للأزمة.. يتصرف فى ملفاتها الملغمة كأنها عابرة تستقر بعدها الأحوال من تلقاء نفسها أو بقبضة الأمن وسطوة الجماعة، لا يدرك أنها أزمة سياسية قبل أن تكون أمنية، وأن موضوعها صورة المستقبل، وصل فى سبعة أشهر إلى نفس النقطة التى وصل إليها «مبارك» بعد ثلاثين عاما على ما تقول «الإيكونوميست» البريطانية، فشل بصورة فادحة فى أولى مهام أى رئيس جمهورية وهى حفظ التماسك الوطنى، فقد انقسم المصريون كما لم يحدث فى تاريخهم كله منذ فجر الضمير، وتوحى تصرفاته كأنه نقل سلطاته إلى جماعة تأبى حتى الآن توفيق أوضاعها القانونية وإخضاع مصادر تمويلها لرقابة مؤسسات الدولة، وبدا المشهد كأنه تسليم للبلد على «سركى» لجماعة «غير قانونية».. ليست القضية أن يتولى إخوانى منصبا عاما إذا ما توافرت فيه كفاءة الوفاء بمهام منصبه، وإلا يصبح الأمر خصما من حقوق المواطنة لمجرد أنه ينتمى للجماعة على نحو ما كان يتبع النظام السابق، إلا أن الجماعة خصمت الحق ذاته من أى مواطن آخر لا ينتمى إليها، وهو تصرف أعاد إنتاج آليات النظام السابق فى تولى المناصب العامة مع إحلال «الجماعة» بدل «الوطنى» ورجال «خيرت الشاطر» محل رجال «جمال مبارك».

 

ألهذا قامت الثورة

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved