فى تفنيد الثنائية بين البشر والمجتمعات

إبراهيم عوض
إبراهيم عوض

آخر تحديث: السبت 11 فبراير 2017 - 9:05 م بتوقيت القاهرة

بعد أسبوع بالكاد على توليه الرئاسة، أصدر الرئيس الأمريكى الجديد دونالد ترامب «أمرا تنفيذيا»، هو بمثابة القرار الجمهورى فى نظامنا القانونى والسياسى، يحظر فيه دخول الولايات المتحدة على مواطنى سبع دول ذات أغلبية مسلمة من السكان، ويعلّق فيه برنامج إعادة توطين اللاجئين لمدّة 180 يوما ويوقف قبول لاجئين سوريين فى الولايات المتحدة إلى أجل غير مسمّى، كما ينخفض بعدد اللاجئين المستهدف قبولهم فى الأراضى الأمريكية فى سنة 2017 من زهاء 120 ألفا إلى 60 ألفا. وقّع الرئيس الأمريكى على الأمر الرئاسى فى مشهد مسرحى، وهو تباهى به فأظهره لعدسات الكاميرات التليفزيونية متفاخرا، فى أغلب الظن، بأنه نفّذ ما وعد به أثناء حملته الانتخابية. ليس الهدف من هذا المقال تحليل القرار الرئاسى الأمريكى وإبراز جوانب التمييز الذى ينطوى عليها. الغرض من المقال هو استعراض المواقف التى اتخذت من قرار ترامب فى داخل الولايات المتحدة وخارجها، واستخلاص الدروس عن علاقات البشر ببعضهم البعض داخل مجتمعات كل منهم وفيما بين مجتمعاتهم. السؤال يثور: هل يوجد مبرر فعلا لقسمة العالم إلى «هم» و«نحن»، إلى «غرب» و«شرق»، هذان «الغرب» و«الشرق» اللذان لن يلتقيا قط كما قال فى القرن التاسع عشر الاستعمارى العتيد روديارد كبلينج؟!

من بين الدول السبع التى نص قرار ترامب على حظر دخول مواطنيها أراضى الولايات المتحدة، أربع منها إما السلطة منهارة فيها انهيارا تاما أو أن نزاعات أهلية مسلحة تجرى فيها فى الوقت الحالى، أو كليهما معا. هذه الدول وهى الصومال وليبيا وسوريا واليمن، لم يكن ممكنا أن تتخذَ فيها الحكومات أو الرأى العام فى كل منها مواقف واضحة أو تصدر فيها تحركات ردّا على قرار ترامب. من بين الدول السبع، إيران وحدها قررت معاملة الأمريكيين بالمثل، أى حظر دخولهم الأراضى الإيرانية، وإن كانت قد سمحت بعد ذلك بدخول من كانوا يحملون فعلا تأشيرات دخول صالحة إلى أراضيها. وبعدها لوّح بعض أعضاء البرلمان العراقى بأن يفرض العراق هو الآخر المعاملة بالمثل على مواطنى الولايات المتحدة. ما همّ تركيا كان التعبير عن توقعها أن يخفف «العالم الغربى» من الأعباء عليها التى يمثلها اللاجئون لديها. جامعة الدول العربية عبّرت عن قلقها الشديد إزاء القيود غير المبررة التى فرضها ترامب. أما بقية الدول الإسلامية، صغيرها وكبيرها، فإن غالبتها الساحقة لم تصدر عنها أى كلمة رسمية. هل «السكوت علامة الرضا» حقا؟

***

المواقف والتحركات اتخذت وصدرت فى الولايات المتحدة، وفيما اصطلح على تسميته «بالغرب»، أى فى البلدان المصنّعة والمتقدِّمة فى شمال العالم، التى تأخذ بنظام سياسى تعددى مفتوح وديمقراطى، ومنها كانت امبراطوريات استعمارية والولايات المتحدة، قوية العالم فى العصر الحالى، وهى البلاد التى سادت قوتها العسكرية والصناعية والتجارية، فضلا عن علمها منذ منتصف القرن الثامن عشر.

بينت ردود الفعل فى أوروبا ترحيبًا بقرار ترامب واحتفاء به جرى على ألسنة أقصى اليمين الأوروبى العنصرى والمتعالى على المسلمين والعرب والأفارقة مثل زعيمة الجبهة الوطنية الفرنسية «مارين لوبن»، واليمينيين المتطرفين الهولندى «جرت فيلدرز» والألمانى «الكسندر جولاند». نفس الترحيب جرى على ألسنة بعض المسئولين الأوروبيين الذين يحكمون فى شرق ووسط أوروبا مثل «فيكتور أوربان» فى المجر و«ميلوش زيمان» فى جمهورية التشيك. ولكن انظر إلى أغلبية ردود الفعل. رئيس وزراء كندا، «جاستن ترودو» أعلن أن الكنديين سيرحبون بأولئك الفارين من الاضطهاد والارهاب والحرب بصرف النظر عن عقيدتهم، «فقوّتنا فى تنوعنا». المستشارة الألمانية «أنجيلا ميركل» قالت لترامب فى محادثة هاتفية بينهما أن حظر دخول اللاجئين والمهاجرين ليس مقبولا على سبيل جهود مكافحة الإرهاب. وفى مقام آخر أعلنت ميركل أن المكافحة الحاسمة والضرورية للإرهاب لا تبرر التشكك فى أناس ينتمون إلى عقيدة ما، وفى هذه الحالة بالذات العقيدة الإسلامية، أو فى أناس من أى بلد من البلدان. نائب المستشارة «سيجمار جابرييل» ذهب إلى أبعد من ذلك إذ قال إن الولايات المتحدة بلد للتقاليد المسيحية قيمة كبيرة فيه، وأن تحبّ جارك قيمة مسيحية عليا وهى تشمل مساعدة الناس، ثم أضاف «أن هذا هو ما يجمعنا فى الغرب ونحن نريد أن نجعل ذلك واضحا للأمريكيين». وزير الخارجية الفرنسى صرّح بأن الترحيب باللاجئين الفارين من الحرب والاضطهاد «واجب علينا». وزير خارجية لوكسمبورج قال إن الرئيس الأمريكى يقسِّم بقراره العالم الإسلامى إلى خيرين وشريرين وأن هذا القرار سيئ بالنسبة لأوروبا لأنه سيرفع من مستوى الشك والكراهية فى العالم الإسلامى تجاهها. رئيس الوزراء الإيطالى «باولو جنتيلونى» قال إن المجتمع المفتوح والهويات المتعددة وعدم التمييز هى أعمدة البناء الأوروبى، وسجلت حكومات الدنمارك والسويد والنرويج معارضتها لقرار ترامب.

ليس أقل أهميةً من ردود فعل المسئولين والحكومات هو ما صدر عن القضاء وعن المجتمعات. فى اليوم التالى لتوقيع ترامب على قراره، أصدرت قاضية اتحادية فى نيويورك حكما بتعليق تنفيذ القرار مؤقتا فى كل أنحاء الولايات المتحدة، وبعدها بأقل من أسبوع أصدر قاضى اتحادى آخر فى سياتل، عاصمة ولاية واشنطن فى شمال غرب الولايات المتحدة، حكما آخر يوقف العمل بقرار الرئيس الأمريكى وهو ما جعل شركات الطيران تسمح لمواطنى الدول السبع بأن يستقلّوا طائراتها المسافرة إلى الولايات المتحدة طالما كانوا يحملون تأشيرات دخول صالحة بعد أن كانت الشركات قد امتنعت عن ذلك منذ صدور القرار. هذا الحكم الأخير قد صدر بناء على دعوى أقامها اتحاد الحريات المدنية الأمريكى، تلك المنظمة الرائدة فى المجتمع المدنى الأمريكى مكافحةً للتمييز ودفاعا عن حريات المقيمين فى الولايات المتحدة وحقوقهم. منظمات أخرى، بعضها كنسى، احتج على قرار ترامب بل ورفضت تمييزه لمواطنى الدول السبع المسيحيين. مجموعات من المواطنين الأمريكيين توجهوا إلى مطارات مدنهم للضغط من أجل دخول المسافرين من الدول السبع وللترحيب بهم. فى أوروبا الغربية كذلك انتظمت مظاهرات وارتفعت أصوات سياسية تندد بالقرار. فى بريطانيا، أصوات نددت بصمتها اضطرت رئيسة الوزراء «تريزا ماي» إلى التعبير عن معارضتها لحظر دخول مواطنى الدول السبع إلى الولايات المتحدة وإلى أن تضيف أن سياسة ترامب تمييزية وخاطئة وأن حكومتها لن تحذو حذوها.

***

الغرض من الاستعراض أعلاه هو بيان أن المجتمعات الأمريكية والأوروبية ليست على موقف واحد ولا على رأى واحد فى شأن علاقاتها بالمجتمعات الإسلامية أو العربية أو الأفريقية أو تلك المنتمية إلى ما اصطلح على تسميته فى العقدين الأخيرين «بجنوب العالم» عموما. التنوّع والتعدد هما سمتا المجتمعات الأمريكية والأوروبية، وعلى شرعية التعدد والتنوّع ينصبّ الخلاف بين ترامب ومن ذهب مذهبه من أنصار تقييدهما، من جانب، وأولئك المتمسكون بهما باعتبار أنهما بمثابة العمودين لهذه المجتمعات، من جانب آخر. أنصار الانغلاق والتميّز والتفوّق والتمترس خلف الحدود، من جانب، فى مواجهة من يركِّزون على المشترك بين البشر، والتضامن فيما بينهم، والانخفاض بارتفاع الحدود وانسياب الناس عبرها، والتداخل بين المجتمعات. هاتان نظرتان مختلفتان تماما للعالم وللعلاقات بين البشر والمجتمعات، وفيما بينهما أطياف.

ما هو الوضع عندنا؟ هو وضع شبيه تماما. بين جنباتنا من يدعو بل ويعمل على إغلاق بلداننا وعلى عزل ثقافتنا ومعارفنا وممارساتنا عن التجربة العالمية بنفس دعوى التفوّق والتميّز، وهى دعوى فاسدة وتضليلية هنا كما أنها فاسدة وتضليلية هناك. المفارقة أن هذه الدعوى بصيغ مختلفة تصدر عن أكثر من فريق العداوة بينها مستحكمة! ويقترن بهذه الدعوى عمل على إخماد التيارات الداعية إلى صيانة التنوّع والتعدد وإلى التواصل مع البشر فى المجتمعات الأخرى ومع مجتمعاتهم. الخطير فى الدعوى عندنا هو أنه لا يمكن لمجتمعاتنا أن تعالج مشاكلها وهى متقوقعة على ذاتها تعزل نفسها وترفض التفاعل مع أفكار وقيم الآخرين، مكتفيةً بالعلاقات المادية معهم، مع أن الأفكار والقيم كانت وراء تقدم الآخرين المادى الذى نبغى الاستفادة منه. والأخطر من ذلك هو أنه لا سبيل إلى سدّ فجوة التقدم المادى، وهو ضرورة لنا لمعالجة مظاهر التخلف الاقتصادى والاجتماعى والثقافى فى بلداننا، بدون بناء المجتمع السياسى المتواصل مع الآخرين والمنفتح عليهم.

مما يلفت النظر فيما قالته المستشارة الألمانية تعليقا على قرار ترامب ومن أيده هو أن «ما يأمل فيه الشعبويون من العودة إلى عالم صغير» لن يكون مفيدا للمجتمع. المعنى فيما قالته ميركل هو أن ترامب وأقصى اليمين الأوروبى يريدون نظاما دوليا من عدد صغير من الدول كذلك، الذى كان قائما قبل تصفية الاستعمار، وحيث كان انتقال البشر محدودا، بخلاف أولئك الذين انتقلوا مع الاستعمار إلى جنوب العالم واستوطن بعضهم فيه. أقصى اليمين يريد عالمين بقانونين «دوليين» مختلفين، عالم رفاهية يعيش فيه، وعالم لما عداه من البشر، ولكل منهما قواعده. هذه ترهات وتخاريف ولا شك، تنبع مقاومتها فى أوروبا وأمريكا الشمالية من إدراك أنها كذلك، ثم من الوعى بأن الخطوة التالية لدى أقصى اليمين هى الاعتداء على التعدد والتنوّع والحريات فى مجتمعاتهم ذاتها.

عندنا، أى دعوة للانغلاق على أنفسنا ومحاربة التعدد والتنوع الموجودين لدينا هما تعزيز للدعاوى العنصرية والاستعلائية لأقصى اليمين الأمريكى والأوروبى.

البشر جميعا يعيشون فى عالم واحد. فى سبيل تقدمنا، ثم لتثبيت التعايش والإخاء والسلام، دعوانا لا بدّ أن تكون من أجل التلاقى بين البشر وانفتاح المجتمعات على بعضها البعض.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved