الخلفية الدينية للسياسة الأمريكية

إكرام لمعي
إكرام لمعي

آخر تحديث: الأربعاء 11 مارس 2009 - 7:14 م بتوقيت القاهرة

 عندما وقعت أحداث 11سبتمبر استغرب العالم من المصطلحات التى استخدمها جورج بوش مثل «الذين ليس معنا هم علينا» وهذه الكلمات مقتبسة من الكتاب المقدس، ومثل إنها «حرب صليبية» وقد فهم العالم أنه يتحدث عن الحروب الصليبية ضد الشرق.

لكن بحسب فكر السياسيين واللاهوتيين الأمريكيين الحرب الصليبية لها معنى دينى أمريكى يختلف عن المعنى الأوروبى وهو إصلاح العالم من خلال مبادئ الكتاب المقدس (الصليب) بعيدا عن العنف، وهو ما لم يفعله بوش، فى نفس الوقت يحاول كثير من المحللين الحديث عن أن غزو العراق كان بسبب البترول أو القوة النووية، وغزو أفغانستان لإخراج السوفيت، والحقيقة أن التحرك الأمريكى نحو العالم له خلفية دينية ضاغطة تعود إلى أحداث التاريخ الأمريكى ومحاولة مطابقته على تاريخ شعب إسرائيل (الشعب المختار من الله) خلال رحلته التاريخية فى الكتاب المقدس، وقد عبر عن ذلك والتر. أ. مكدوجال فى كتابه أرض الميعاد والدولة الصليبية والذى قام بترجمته الدكتور رضا هلال وأصدرته دار الشروق.

وكما نعلم فإن الدولة الأمريكية تأسست من المسيحيين الأوروبيين الذين عبروا المحيط متمثلين بفكر دينى هو خروج بنى إسرائيل من مصر بسبب الاضطهاد وعبورهم البحر الأحمر إلى أرض الميعاد وهكذا تحولت أمريكا إلى أرض ميعاد جديدة، وكما تم غزو أرض فلسطين تم استكمال غزو شمال أمريكا كأرض الميعاد عام 1898 م بين ساحل الأطلنطى شرقا وساحل الهادى غربا، وينقسم الكتاب المقدس إلى قسمين؛ العهد القديم والعهد الجديد.

وبحسب فكر الأمريكيين فالعهد القديم يمثل الحرية (العبور) ثم تكوين الدولة (الانعزال عن العالم وبناء الدولة) ثم التوسع. أما العهد الجديد بالنسبة لهم فهو الليبرالية التقدمية، حيث موت المسيح (الصليب) لأجل الآخر المختلف. ولقد أخذ السياسيون على مدى التاريخ الأمريكى المصطلحات التى أطلقت على إسرائيل فى العهد القديم، كشعب مختار وأمة مقدسة استثنائية، وطبقوها على أمريكا.

وفى عهد جورج واشنطن كانت مرحلة الاستقلال وتكوين الدولة، لذلك استخدم آيات من سفر أشعياء تتحدث عن عدم إقامة أحلاف مع مصر (فى ذلك الوقت)، وطبقها فى رفضه للتحالف مع أوروبا «على أمريكا أن تبقى محايدة فى حروب أوروبا إلا عندما تكون حريتنا أو تقاليدنا المقدسة فى خطر»، ومن الحرية إلى الانعزالية نصل إلى ما سمى «النظام الأمريكى» وعبر عنه الرئيس جيمس مونرو، حيث أعلن أن الأمريكتين لم تعودا محلا لاستعمار جديد.

وبعد قرن من الزمان استعيد مبدأ مونرو عام 1923، حيث ربط الأمريكيون مبدأ مونرو مع الدستور الأمريكى وقوانين الرب، أى الانفصال الكامل عن أوروبا، وهنا كان على الولايات المتحدة الأمريكية ــ وقد كان هذا مقصودا ــ أن تصير نظاما عالميا جديدا. فتبنت أمريكا مبدأ الانتشار والتوسع وذلك لكى تجهض محاولات أوروبا لفرض نفوذها على ما تبقى من أراضى أمريكا الشمالية الشاسعة. فلقد كان المجتمع الأمريكى ثائرا ومتوسعا فى الثلاثينيات والأربعينيات من القرن التاسع عشر، وفى هذه الفترة حدثت حركة إحياء دينى أصولى، كانت علاماتها المميزة الامتناع عن شرب الخمر كتمرد ضد التحرر وضد إنكار عقيده التثليث. ولقد تكررت حركة الأحياء الدينى أكثر من مرة فى التاريخ الأمريكى، إلا أن ربطها بالسياسة العلمانية للدولة لم يكن واضحا.

وكانت هذه الفترة فترة خصبة للحركة الكارزماتية والتى تتصف بالفوران العاطفى فى العبادة وطاعة الله، وإعداد الشعب الأمريكى بأسره للألفية الآتية. وهنا أعاد الوعاظ واللاهوتيون تكريس أمريكا على أنها شعب الله المختار، والتى ستكون قادرة على تحقيق حكم المسيح على الأرض لألف عام. هكذا أصبحت الولايات المتحدة قوة استعمارية، حيث نضجت الثورة الصناعية وأصبحت أمريكا من أغنى دول العالم، وكانت الخلفية التاريخية لهذه الفترة هى الإنجيل الاجتماعى، والذى يعلم أن العمل فوق الإيمان، والجوهر فوق الشكل، وملكوت الله على الأرض كما هو فى السماء. وكان ذلك بتأثير نظرية دارون والنقد الأعلى للكتاب المقدس وكان رد الكنيسة المعمدانية على الاثنين أصوليا عنيفا.

إلا أن التيار البروتستانتى قام بتهدئة هذه المعضلة اللاهوتية من أجل النهضة الاجتماعية والعلمية، وهكذا اتجهت أمريكا بتحفظ نحو الليبرالية العلمانية، رغم الاتجاه القوى المعادى لها، والتى كانت ترى أن الليبرالية انحدار كامل فى النسيج الأخلاقى للأمم. ولذلك سمى الشعب الأمريكى هذه الليبرالية (ليبرالية التقوى) ومن خلال هذه الليبرالية التقدمية ألزمت أمريكا نفسها بالسعى وراء أفكار مجردة مثل الحرية والديمقراطية، ما مهد الطريق إلى رؤية الرئيس ويلسون لإنقاذ العالم فى تأسيس عصبة الأمم المتحدة يقول:

إننا مشاركون ــ أردنا أو لم نرد ــ فى حياة العالم ومصالح الأمم، وقد أصّل هذا دينيا فى خطابه عام 1911 قائلا: «لا تدع أحدا يفترض أو ينكر فصل التقدم عن الدين،فالإنسان الذى يتجذر إيمانه بالكتاب المقدس يعرف أن الإصلاح لا يمكن أن يتوقف». وبعد الحرب العالمية الثانية بدأ الرئيس روزفلت إستراتيجية مواجهة التهديد الشيوعى وكانت الخلفية الدينية لهذه السياسة هى فى الأساس حربا بين الإيمان والمادية، وأن الديمقراطية ما هى إلا قوى روحانية لذلك يناصبها الخطر الشيوعى العداء بصورة كاملة.

فالحركة الشيوعية تقوم على أساس تعصب شرس ينفى وجود الله وتحرص على تحريم عبادته. ولقد قام ترومان بإقامة علاقة دبلوماسية مع الفاتيكان، وهو ما كان مرفوضا من المعمدانيين، وذلك للاختلاف العقيدى. ولم يجرؤ على ذلك أى رئيس سابق. وقد استمرت هذه السياسة وتنامت بالردع الثورى فى عهد أيزنهاور، وفى مرحلة جون كنيدى وجونسون شنت حروب التمرد الشعبى فى العالم الثالث، وفى عهد نيكسون تم احتواء الاتحاد السوفيتى من خلال الترغيب والترهيب، ثم جاء ريجان ليتحالف مع البابا يوحنا بولس ويفتح الترسانة العسكرية؛ وهكذا فتح الهجوم الأيديولوجى مع العسكرى من خلال مساعدة المجاهدين الأفغان والكونترا وبولندا.

لتتحقق نبوءة الكتاب المقدس (أن الشعوب الخاضعة ستثور من تلقاء نفسها ضد إمبراطورية الشر) أى (موسكو). من هنا جاءت وتبلورت فكرة إصلاح العالم وهى ببساطة رسالة أمريكا لجعل العالم مكانا أفضل اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا وروحيا، بالحلم الأمريكى. وطبعا؛ تفترض هذه الفكرة أن النموذج الأمريكى مقبول وصالح عالميا، وهم يتناسون حضارات وثقافات البلاد المختلفة، ويتناسون فشلهم مع الصين لأنها تملك حضارة بديلة بجذورها التاريخية العميقة.

إلا أنهم بدخول عصر العولمة حسم الموقف الأمريكى الذى يحلم باستعادة مجد الإمبراطورية الرومانية، حيث كان المواطن العالمى فى ذلك الوقت هو من يتحدث اليونانية ويتمتع بالجنسية الرومانية ويدين بالمسيحية. والمواطن العالمى فى الزمن الأمريكى اليوم هو من يتحدث الإنجليزية بلكنة أمريكية ويحصل على الجنسية الأمريكية أو على الأقل الـGreen card ويدين بالمسيحية التى تميل إلى الصهيونية والتى تؤمن بعودة اليهود إلى فلسطين.

وفى النهاية نقول: إنه لا توجد دولة علمانية خالصة لا يتدخل الدين فى سياستها مهما ادعت ذلك. ودليلنا على ذلك أمريكا. صحيح نحن لا يمكننا تحديد مدى التأثير الدينى بإحصاءات دقيقة صعودا وهبوطا، لكن هذا التأثير واضح وضوح الشمس على مر التاريخ. وعلينا هنا أن نفرق بين الدين كروح عامة تنتشر بين الناس ومفكرين يجتهدون فى تفسير الكتب المقدسة، وبين الدين كمؤسسة وشرائع تركز توجهها على الدولة حتى لو كانت هذه الحكومات غير دينية. وإذا كان الأمر كذلك مع أمريكا فنحن نحتاج فى مصر إلى إعادة تقييم شكل العلاقة معها لكى ننجح فى الحديث إليها باللغة التى تفهمها.

مع الوضع فى الاعتبار أن هناك فرقين مهمين بين ممارسات الدين لدينا ولديهم. فالدين فى أمريكا حركة شعبية ضاغطة، وليس مؤسسة ممتلئة برجال دين يفرضون شرعيتهم على المجتمع، يقبلون من يقبلون ويكفرون من يكفرون، فى الوقت الذى ينعزلون فيه عن الحركة الشعبية، كما هو الحال عندنا. أيضا الدين المسيحى عندنا يعتمد على لاهوت وفكر وتوجه الكنائس التقليدية الأرثوذكسية والكاثوليكية المصرية فى أغلبه، أما الأمريكيون فيؤمنون بالإصلاح البروتستانتى الذى يعتمد على حرية الفرد من سلطان الكنيسة وديمقراطية الإدارة الكنسية.

فالنزعة نحو التنوير المستمر أو استمرارية عملية الإصلاح دون توقف هما ما شكلا نظام الحكم ومدد الرئاسة، وهو نفس النظام داخل الكنيسة، والتنقل من تقليد لآخر كاستمرارية لعملية الإصلاح، هو ما لم نستوعبه حتى اليوم كمسلمين ومسيحيين. ويعتقد كثيرون أنه ليس من حضارتنا، فحضارتنا ديكتاتورية سياسية دينية. وهكذا يبدو حوارنا معهم بلا جدوى، لا فهم ولا تفهم؛ إنه حوار الطرشان، فهل هناك من حل لهذه المعضلة يبدو فى الأفق؟!

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved