كان فيه مرة واحد خباز شريف

أميمة كمال
أميمة كمال

آخر تحديث: الإثنين 12 مارس 2012 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

من المؤكد أنه لم يكن أحد من أصحاب المؤهلات الحاصلين عليها فى عام 1984 يتصور عندما طلب التنازل عن حقه فى التوظيف، أو الحصول على قطعة أرض يزرعها، واختار بدلا من ذلك الحصول على ترخيص بإنشاء مخبز فى بلدته. لم يكن يتصور أنه سيأتى عليه اليوم الذى يجلس أمام فرنه فى العاشرة صباحا، وقد أنهى عمله ولا يجد ما يفعله بقية اليوم. السيد عبدالمغنى من ميت غمر أحد هؤلاء الذين اختاروا الوقوف أمام الفرن، بدلا من الجلوس على مكتب. نصيب عبد المغنى من الدقيق المدعم بعد كل هذه السنوات 7 جوالات، والجوال الواحد يزن 100 كيلو. وهو ينتج من الساعة السابعة صباحا، وقبل أن تصل عقارب الساعة 11 صباحا يكون قد انتهى من إنتاج 8250 رغيفا. هو كل ما أخرجته كمية الدقيق المدعم، وعليه قبل أن ينتصف النهار، أن يغلق فرنه، لإنه غير مسموح له أن يعمل بقية اليوم فى إنتاج عيش من الدقيق الحر.

 

عبد المغنى يقسم أنه وهو وزملاؤه من سوهاج، والمنيا، وكفر الشيخ، والبحيرة، والغربية الذين كونوا بعد الثورة ما سموه «ائتلاف مخابز مصر الشرفاء، لديهم الفرصة كاملة أن يكسبوا مالا حراما، من بيع نصف حصتهم من الدقيق المدعم لبتوع الحلويات. لأنهم يحصلون على الجوال الواحد مدعما بـ16 جنيها، بينما يباع فى السوق السوداء ب150 جنيها. ولكنهم يستحرمون ذلك، ويخشون على صحة أولادهم، إن سرقوا قوت الناس الغلابة. عبد المغنى وزملاؤه والذين لا يطيقون دعوات الناس عليهم، إلا أنهم فى بعض الأحيان يعذرونهم، عندما يعتقدون أنهم يسرقون دقيق الحكومة، مثلهم مثل هؤلاء الخبازين الذين هم من طينة تانية غيرهم، ويحصلون على أطنان من الدقيق من خلال منظومة غير عادلة.

 

عبد المغنى وزملاؤه كانوا يكسبون فى الجوال الواحد فى عام 2006 حوالى 10 جنيهات، وكان يحمدون الله عليهم. فالعشرة جنيهات المكسب فى الجوال الواحد، كان يتم احتسابها ايام كان العامل لديهم يأخذ 12 جنيها فى اليوم، أما الآن فهو يحصل على 50 جنيها. ولأن التفاوض دائما يتم بين الأقوياء ولا يبقى أمام الضعفاء إلا الإذعان. فإن العقد الذى تم توقيعه ويتم على أساسه حساب تكلفة إنتاج الرغيف، تم بين كبار أصحاب المخابز مع على المصيلحى وزير التضامن الاجتماعى وقتها. وكانت نتيجة العقد الجائر الآن أنه ساوى بين يومية «العجان» الذى يقطع الدقيق فى مخبز ينتج 5 أجولة فى قرى بنى سويف، وذلك الذى ينتج 50 جوالا فى حى الزمالك ومصر الجديدة. وبذلك ارتفعت عنده تكلفة إنتاج الجوال الواحد من 65 جنيها إلى 90 جنيها دون أن تعترف الحكومة بذلك.

 

أحمد محمد من قرية العساكرة ببنى سويف هو أحد أعضاء إئتلاف الخبازين الشرفاء الذى مازال يقف مع أخواته وأولاد عمه فى الفرن الذين ورثوه عن جدهم. وبالرغم من أنه خريج شريعة وقانون، ويعد الآن ماجستير فى جامعة القاهرة، إلا أنه مازال يعشق غبار الفرن، ولا يمل من الحديث عن عمال المخبز، من الطولجية والسحلجية، والمناولين الذين ربما فقدوا مصدر رزقهم لو ترك هو وأخواته الفرن الذى أصبح بالنسبة لهم مصدر للخسارة. وبالرغم من أن أحمد يمسك بالورقة والقلم ويحسب لى كيف أن اتفاق الوزير مصيلحى وكبار الخبازين فى شعبة المخابز بالغرفة التجارية كانت على حساب صغار الخبازين، الذين أخذوا على أنفسهم عهد ألا يسرقوا أهاليهم وجيرانهم فى القرية، إلا أنه ينسى مشكلته تماما، ويسترسل فى الحديث عن ذلك الظلم الواقع على فقراء النجوع، والكفور، والقرى المحيطة ببلدته. أحمد يتحسر على أن نصيب الأسرة فى قريته 7 أرغفة فى اليوم، بصرف النظر عن عدد أفراد الأسرة. وإنه عندما تزوج فى القرية حوالى 380 شابا ،أى تشكلت 380 أسرة جديدة لم تزد كميات الدقيق التى تصلهم فى القرية. وبقى هؤلاء يشترون العيش الحر مهما كانت ظروفهم المالية قاسية. وهو يتذكر كيف أنه فى قرية الشنطور لايوجد بها سوى مخبز واحد يحصل على 5 أجولة. ويقول متهكما لعل صاحب المخبز لا يملك المهارات الكافية فى التعامل مع المسئولين، وهذا هو المبرر المقبول لكون هذا المخبز احتفظ بنصيب ثابت من الدقيق المدعم عند 5 أجولة دون زيادة عبر 33 سنة هى عمر هذا المخبز. ويسرح قليلا ليعود متذكرا مرة أخرى أن كفر نعمان بميت غمر والذى يبلغ عدد سكانه 20 ألف نسمة به مخبز واحد وحصته 7 أجولة . وكل حصاد هذا الكفر ،الذى من المؤكد أن حكوميا واحدا لم يراه على الخريطة من قبل، حصاده من عدد الأرغفة المدعمة هو 7350 رغيفا يعنى نصيب كل مواطن فى الأسرة، هو نصف رغيف فى اليوم. مع أن دفاتر الحكومة تقول إن نصيب كل مصرى يتنفس على أرض مصر 3 أرغفة بالكمال والتمام. ولذلك فإن مشهد السيدات اللاتى يأتين إلى مخبز أحمد بقريته بعد صلاة الفجر من أجل أن يجدن رغيفا زائدا لديه، هو المشهد الذى لا يفارق عينه. بينما هناك مخابز فى القاهرة، وفى أحياء راقية منها يصل نصيبها من الدقيق المدعم 30 و50 جوالا للمخبز الواحد.

 

وربما يكون قلب عبد الوهاب قورة عضو ائتلاف الخبازين على مليارات دعم الخبز فى الموازنة، أكثر كثيرا من رئيس الوزراء ووزير المالية. حيث إنه يقول إنه لن يمل من التردد على وزارة التموين، ومجلس الشعب من أجل المطالبة بحفظ مليارات الدولة عن طريق دعم الرغيف، وليس الدقيق. ومن أجل التوزيع العادل للحصص بعدد السكان، وليس بجبر الخواطر. ووضع حد أقصى لحصة المخبز الواحد.

 

والحقيقة أن هؤلاء الخبازين هم من يصدق عليهم أنهم يريدون تطبيق شرع الله، وليس غيرهم. وشرع الله هو العدل، العدل فى ألا ينام طفل فى قرية، أو عزبة ،أو كفر، أو نجع وهو جائع. بينما أصحاب المخابز يوزعون نصيبه من الدقيق على محبى الجاتوه السواريه، والبتى فور والعيش الفرنساوى، فهل يسمعهم من أقسموا فى البرلمان على أنهم لن يخالفوا شرع الله؟!

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved