المجنونة التى ترقص

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: السبت 11 مارس 2017 - 9:35 م بتوقيت القاهرة

قبل سنوات تعلمت صنع طبق المقلوبة الفلسطينية بالأرز واللحم والباذنجان، وطار عقلى فرحا عندما وقعت على قطعة موسيقية للمؤلف الفلسطينى مروان عبادو بعنوان «مقلوبة»، وهى مزيج من الإيقاع والعود والساكسفون يختلط فيه المذاق، كما يحدث فى مكونات الطبق الشهى حين تطبخ معا على نار هادية. وصرت أقدم لضيوفى أكلة «المقلوبة» فى دعوات العشاء، على أنغام المقطوعة التى تحمل اسمها، ثم أتبعها بأعمال موسيقية أخرى لمؤلفين فلسطينيين معاصرين ارتبطوا بالعود، أمثال الثلاثى جبران والأخوين خالد وكاميليا جبران وسيمون شاهين، الذين يعيش معظمهم بالمهجر، سواء فى أمريكا أو فرنسا، لظروف العمل (باستثناء خالد جبران المقيم فى رام الله حيث أسس مركز الأرموى لموسيقى المشرق). تشبهنى موسيقى كل هؤلاء فى مكان ما، وتشبه الكثيرين بيننا، حين تطور من نفسها فلا تشعرنا بالجمود، بل على العكس تتفاعل مع الشرق بمفهومه الأوسع وتحمل تأثيرات من تركيا وإيران والبلقان وآسيا الصغرى مع الاحتفاظ بأصالتها وثقافتها، وأحيانا تقتنص شيئا من حرية الجاز وتقاسيم آلاته كالبيانو والكونترباص والساكسفون، بما ينسجم تماما مع روح الارتجال الشرقية.
ربما ما يجمع بين هؤلاء على اختلاف موسيقاهم هو الرغبة فى كسر الحواجز والحدود مع التمسك بالهوية، ويرجع ذلك فى ظنى للتركيبة الفلسطينية التى ترغب فى التمرد على الوضع السياسى الذى طال. يبنون «قنطرة» ليعبروا عليها باتجاه الآخرين، مثلما فعل سيمون شاهين حين قدم من فترة مقطوعته «قنطرة». وها هو عيسى مراد، عازف عود فلسطينى آخر، يطرح فى الأسواق ألبوما جديدا بعنوان «جسور»، وهو الاسم نفسه الذى أطلقه على الفرقة الموسيقية التى أسسها قبل خمس سنوات فى العاصمة الفرنسية.
عمل يدعونا للتأمل أحيانا وللرقص أحيانا، بعيدا عن معترك السياسة. نتأمل معه «البحر» أو نلهو مع «زينة»، ابنة المؤلف الصغيرة التى اقترن اسمها بإحدى مقطوعاته، أو نتابع لحظات «هروبه» التى يلاحقه فيها عازف الإيقاع السورى سمير حمصى والموسيقيون الفرنسيون: ريتشارد توريجانو (بيانو)، وفريدريك شابورون (درامز)، ومارك بيرونفوس (كونترباص). هروب يحمل الطاقة المتجددة للأماكن المختلفة ويعبر عنها.
***
عيسى مراد الذى يعيش حاليا بين باريس والقاهرة حيث يدرس الموسيقى الإثنية أو موسيقى الشعوب بالجامعة الأمريكية يصل الشرق بالغرب، يخلط أنماطهما الموسيقية، دون تصنع. يروح ويجىء بينهما كما يفعل فى الواقع حين يتنقل هنا وهناك، عملا بنصيحة والده حين قال له: «إذا أردت أن تتعرف على العالم العربى فلابد أن تذهب إلى القاهرة، وإذا أردت أن تتعرف على الغرب فلابد من باريس». وقد كان، فبعد أن درس الموسيقى فى معهد إدوارد سعيد فى فلسطين جاء إلى القاهرة والتحق ببيت العود الذى أسسه نصير شمة فى التسعينيات، ثم سافر إلى باريس حيث درس بالسوربون وقدم أطروحة حول عناصر التغريب فى موسيقى عبدالوهاب.
أعمال هذا الأخير تسربت إلى اللاوعى منذ أن كان عيسى مراد طفلا يستمع إلى الموسيقى فى بيت لحم، إلى جوار والده الذى كان يعشق بالأخص فريد الأطرش. لم يكن يعرف وقتها أنه سيأتى يوما ويكون له مشروعه الفنى الخاص، وأنه سيبنى جسورا على طريقته ويقترب من الجاز الشرقى الذى ازدهر منذ التسعينيات، وأنه سيجد لنفسه مساحة إلى جوار التونسى أنور أبراهم واللبنانى رابح أبو خليل، اللذان اقترن اسمهما بهذا النوع من الموسيقى وبالعود طبعا.
***
حين تحاكى موسيقى مراد رقصة المجنونة أو حركات «المجنونة التى ترقص» على أوزان تتغير بشكل دائم، ينطلق هو أيضا ويبنى مقطوعته على ما يسمى بالجنزير الإيقاعى التى يصعب عادة الرقص عليه لسرعته، تتوالف معه جميع الآلات. وفى مقطوعات أخرى من الألبوم يفسح المجال للناى الهندى ويعطيه مساحته، بما يعد بأجواء شجية ومختلفة تماما، قد نجدها فى «التائه» التى كانت بالأساس موضوعة لفيلم قصير لم ير النور، حول شاب من أب فلسطينى وأم مصرية، لم يكن لديه إقامة بمصر فكان يشعر بالتوهان كالعديد ممن عانوا من المشكلة نفسها خلال سنوات طويلة.
لا شىء مقحم، بل نحن بصدد ألبوم أول متكامل، يتشارك فيه العازفون، كما لو أنهم مجموعة من الأصدقاء اجتمعوا على وجبة عشاء، بكل تلقائية وود. وفجأة قامت مجنونة لترقص.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved