إمكانية بناء مستقبل بديل

نبيل الهادي
نبيل الهادي

آخر تحديث: الثلاثاء 12 مارس 2019 - 3:40 ص بتوقيت القاهرة

فى أغسطس من عام 2007 نشرت مجلة «وجهات نظر» نص محاضرة ألقاها آنذاك بالإنجليزية المهندس «أحمد المغربى» وزير الإسكان أمام الغرفة التجارية المصرية الأمريكية بالقاهرة عن رؤية لمستقبل القاهرة فى العام 2050 وكان العنوان المختار «كل الخيارات مفتوحة» وكان نص المحاضرة من الأوراق المفضلة لدى للمناقشة مع طالبات وطلبة ماجستير العمارة. وكنت أشير بشىء من التعجب لأن السيد الوزير وضع هدفا للقاهرة أن تكون منافسا لدبى. ولم يصبح فى قدرة الكثير من المهتمين بمستقبل العمران الحياة فى مصر الاطلاع على صورة أكثر تفصيلا لما اصطلح على تسميته القاهرة 2050 إلا بعد يناير 2011، وللحظ الطيب أيضا اطلعنا فى ذلك العام أيضا على المسودات الأولى لرؤية مصر 2052 من رئيس هيئة التخطيط العمرانى. كما اضطلعت بعدها وزارة التخطيط بعمل رؤية مصر 2030 والتى تحاول هيئة التخطيط العمرانى التنسيق بينها وبين خطتها الكبرى.

ووضع التصورات المستقبلية للمناطق العمرانية المختلفة يتناول بصورة مباشرة قرارات تؤثر على حياة ملايين من المصريين وتتناول ليس فقط البنية الأساسية وتوفير الإسكان ولكن أيضا توفير أماكن الصناعة والأنشطة الاقتصادية المختلفة المبنية على توقعات الخبراء فى تلك المجالات. لن أناقش هنا عملية وضع هذه المخططات والرؤى والتى ربما يجب أن تتم فى إطار نقاش عام مفتوح ويضم ليس فقط خبراء مختلفى التوجهات ولكن أيضا أصحاب المصلحة والسياسيين والإداريين.
فى تصريحات متعددة اعتاد مسئولو وزارة الإسكان والهيئات المسئولة عن تطوير المدن فى مصر التأكيد على تبنى مفهوم العمران المستدام خاصة فى المدن الجديدة. ولم يقل لنا أحد كيف يمكن لهذه المدن المولودة فى الصحراء بدون أى مصدر محلى للمياه أو الطاقة أو الغذاء والمنفصلة عن أى مجتمع قائم والتى تستخدم فى إقامتها أموال لا نمتلكها. كيف يمكن لمجتمع مثل هذا أن يكون مستداما. والاستدامة ليست صرعة عالمية أو موضة يجب أن نسير وراءها حتى نكون معاصرين ولكنها كما أفهمها شرط أساسى لحياة إنسانية توفر الشروط الأساسية من الصحة والمسكن والقضاء على الفقر وفى نفس الوقت تحافظ على الموارد البيئية حتى يستفيد منها الأجيال القادمة. كل ذلك فى إطار اقتصاد قائم على الاستفادة المثلى من الموارد المحلية من كفاءات بشرية وأموال وأنشطة وحرف وتراث....إلخ.
***
وفى الجامعة التى نتعامل معها كمعمل لاختبار أفكار وبدائل ممكنة لبناء مستقبل مقبول للإنسان فى مصر قمنا بتجارب أولية فى مدينتين مصريتين حتى الآن. الأولى كانت مدينة القصير والثانية مدينة رشيد والعمل الذى بدأ منذ ثلاث سنوات مازال يتم تطويره ولكن نتائجه يمكن مناقشتها ونزعم أيضا أنه يمكن وضعها تحت الاختبار فى الواقع. وتقوم تجاربنا على فرضية جوهرية عن طبيعة التحديات التى تواجهنا والتى تتطلب تغييرا أساسيا وعميقا فى التعاطى معها. وأن تلك التحديات ومنها التغير المناخى وتبعاته الكبيرة للغاية على البيئة والمجتمع والاقتصاد فى مصر يمكن أن ننظر إليها ونتعامل معها على أن فرص للتنمية؟

والأسئلة المحورية التى نسألها فى المناطق التى تعاملنا معها (القصير ورشيد) لها علاقة بكيف يمكن تنمية وتطوير أى منطقة (وخاصة تلك التى تحوى مبانى أثرية مهمة) بصورة تضع الإنسان القاطن فى محيطها وأيضا المجتمع ككل فى جوهر تلك العملية (أى جعل الجوانب الاجتماعية مثل التعليم والصحة مرتبطة بالأنشطة الاقتصادية المستدامة، والتى هى فى الغالب متنوعة، وليست سياحية فقط، وترتبط بالحفاظ على الجوانب البيئية مثل المياه والتربة وجودة الهواء) والسؤال الثانى الذى لا ينفصل عن الأول هو كيف نفعل ذلك مع الأخذ فى الاعتبار مواردنا المحدودة لأننا لو اعتمدنا أنماط من التنمية تتطلب أموالا لا نملكها وقدرات ومهارات ليست لدينا وتقنيات ليست متاحة فسننتهى إلى نهايات لا نحبها وشواهدها موجودة فى أنحاء عديدة فى مصر.
قلعة قايتباى وبالقرب منها مصنع للطوب من المقرر إزالته وتظهر منطقة برج رشيد المحيطة (الصورة من nat geo map maker)

مقترح أولى للمشروع القومى لتطوير وتنمية مدينة رشيد (الصورة من عرض من إعداد محافظة البحيرة بناء على المقترحات المعدة بواسطة الهيئة العامة للتخطيط العمرانى)
الصورة السابقة تتضمن صورة إجمالية للمشروع المقترح حيث يعاد استخدام مصنع الطوب كجزء من تطوير الزراعة السمكية المستدامة والزراعة المتكاملة معه كمشروع تجريبى لتطوير الزراعات السمكية فى المنطقة ككل ويشمل أيضا مركزا للتدريب والتعليم ويشمل المشروع مشروعات عديدة صغيرة وهو ما يسمح بتحويل حافة النهر لمكان إنتاجى واجتماعى ويشكل حماية بيئية مستقبلية ضد ارتفاع منسوب المياه وإدماج القلعة والأنشطة الداخلية بها فى هذا الإطار بما يسمح باجتذاب المزيد من السياح (لاحظ أيضا تطوير الميناء الموجود بصورة تعتمد على التقنيات المحلية).

***
كانت نقطة البداية للمشروع الذى عمل عليه طالبات وطلبة الماجستير المعلومات الدقيقة عن السيناريوهات المختلفة لتأثير التغير المناخى على المنطقة المحيطة فى المستقبل القريب سواء فى سنة 2030 أو 2050، وهو للأسف ما كان غائبا فى دراسات تنمية مدينة رشيد خاصة؛ لأن عواقب التغير المناخى متعددة ومركبة وسيكون لها تأثير كبير على مختلف نواحى الحياة ليس فقط فى منطقة رشيد ولا حتى فى الدلتا (وإن كانت الأكثر تأثرا) ولكن فى مختلف أنحاء مصر.
ويعتمد المشروع على تطوير رؤية عامة لتنمية المنطقة لتحويلها إلى منطقة منتجة. تعتمد أساسا على المواد والموارد الأخرى المحلية وتحويلها إلى منتجات عالية القيمة من خلال تقنيات متوافرة محليا أو يمكن دمجها محليا بدون مشاكل كبرى ويتطلب ذلك أيضا تطوير مراكز محلية للتدريب والتعليم تشارك فيه المؤسسات المصرية العاملة فى مجال البحث العلمى والأنشطة المتخصصة (مثلا المركز القومى لبحوث المياه والمراكز البحثية الأخرى القريبة من رشيد مثل المراكز المتعددة الموجودة فى الإسكندرية). ويتبنى المشروع المقترح التنمية عن طريق مشروعات صغيرة يمكن تمويلها محليا وتترابط تلك المشروعات معا لتكوين شبكات تنموية مثلا شبكة تنمية خطية للمنطقة الواقع على حافة النهر وشبكة تنمية أخرى للمناطق المتاخمة للأراضى الزراعية. وتسمح خطة التنمية تلك بالبدء السريع فى مشروعات تجريبية للتنمية يتم فيها اختبار كفاءة التقنيات المقترحة وكيفية تدريب وتطوير المهارات المحلية.

***
الهدف من الإشارة إلى المشروع الذى قام به طلاب الماجستير بالرغم من وجود مشروع قامت به عدة جهات من الدولة وهناك نية واضحة لتنفيذه، هو توضيح إمكانية بناء مستقبل بديل أكثر ملاءمة للمجتمع ويحمل فى هيكله إمكانية التجدد والاستجابة للتحديات البيئية الكبيرة التى بدأت وستستمر معنا لفترة طويلة. وبالرغم من أننا أعددنا المشروع بحيث يمكن تنفيذه فى الحقيقة وهو ما يمكن إدراجه فى المشروعات التى تتبنى وتدافع عن مصلحة المجتمع (ليس فقط المحلى ولكن المجتمع الأكبر) وهو ما يمكن أن يندرج فى ما يمكن تسميته advocacy urban design وهو دور أعتقد أن على الجامعات المصرية الانخراط فيه بصورة أكبر لأن له منافع تعليمية للطالبات والطلبة والأهم منافع محتملة للمجتمعات المحلية كما أنه يصلح أيضا ليكون أساسا لحوار جاد حول البيئة العمرانية والتنمية يعتمد ليس على آراء عامة (حتى لو كانت من متخصصين) ولكن على دراسات وبيانات وعلوم متعددة وله رؤية واضحة.

ونحن فى جامعة القاهرة مستمرون فى العمل على هذا الطرح الذى نعتقد أنه حيوى ليس فقط لمنطقة البرج فى رشيد ولا حتى لباقى المناطق فى شمال الدلتا المعرضة لتحديات كبيرة ولكن للعديد من الأماكن فى مصر وفى هذا الإطار بدأنا تعاونا أوليا مع أساتذة أفاضل فى عدة معاهد بحثية فى مصر يتعاملون مع تحديات المياه من جوانب متعددة ومستمرون فى تطوير مقترحات يمكن تنفيذها باستخدام تقنيات محلية (مطورة أو تحتاج للمزيد من التطوير) ونتمنى أيضا أن يكون لها جزء كبير من التمويل المحلى وإن كان هذا من التحديات الكبرى ولكننا نعتقد أنه ممكن. الأمر بوضوح شديد هو إن لم نستطع ابتكار وسائل تمكنا من الاستخدام الممتاز لمواردنا المحدودة فلن نكون قادرين على بدء عملية مستدامة للتنمية تنقذ البشر أولا ثم المبانى والمناطق التاريخية ثم تعمل بجدية نحو مستقبل لائق بكرامة الإنسان فى هذا المكان أو تلك.

• مشروع الطلبة هو من عمل فيليب ولورا وفلور وأحمد ممدوح بإشرافى فى ربيع 2018 وفاز المشروع بالجائزة الثانية فى المسابقة الدولية التى نظمتها الجامعة التقنية بدلفت TU Delft
أستاذ العمارة بجامعة القاهرة


هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved