«التراث والإبداع» في ثقافات الشرق والغرب

إيهاب الملاح
إيهاب الملاح

آخر تحديث: السبت 11 مارس 2023 - 8:45 م بتوقيت القاهرة

ــ 1 ــ
«التراث والإبداع» شعار الدورة العشرين من أيام الشارقة التراثية (تقام فعالياتها خلال الفترة من 1 إلى 21 مارس 2023)؛ وهو شعار يتضمن العديد من المعانى والدلالات والتوجهات. فلم يعد خافيا ولا مجهولا أن الشارقة صارت بغير منافس قبلة الثقافة التراثية والاهتمام بها، فى عالمنا العربى والإسلامى، وصارت من دون أى تزيد أو مبالغة أكبر منصة عربية بل أيضا عالمية فى دعم ودفع جهود الحفاظ على التراث وصونه وتوثيقه ووضعه أمانة لا تقدر بمال بين أيدى الأبناء والأحفاد فى المستقبل.

ما بين العام 2017 (مشاركتى الأولى فى فاعليات أيام الشارقة التراثية) والعام 2023 (الذى أتشرف بالمشاركة فى فاعليات دورته الحالية، وضمن محور محاضرات شهر القراءة) يظهر الأثر الواسع والكبير، وتتعدد الدلالات الرائعة التى يمكن استشفافها وقراءتها وتحليلها فيما يحدث على أرض هذا البلد الطيب، بوعى حكامه وحبهم وإخلاصهم لبلدهم وشعبهم، من تسارعٍ غير مسبوق فى التحديث والسعى إلى النهوض الحقيقى، ونشر العلوم والمعارف والآداب والفنون والاعتناء بكل ما هو أصيل وجميل وصونه ونشره.

ــ 2 ــ
وشعار هذه الدورة جاء حاويا مفرداتٍ ومعانى تبرز ثنائية الأصالة والمعاصرة فى تمثل ومزج واع وحقيقى لا مجرد التجاور أو التلفيق، حيث لا يزال التراث منهلا إبداعيا نفيسا وغاليا وأصيلا وموردا غنيا استلهم من معينه الخصب الهائل المبدعون فى كل ألوان وأشكال الفنون، سواء كانوا أدباء (روائيين وشعراء وقصاصين ومسرحيين) أم تشكيليين أم موسيقيين.. إلخ. وقد وظف هؤلاء المبدعون الكثير والكثير من عناصر ومكونات وقِيم هذا التراث، مبرزين الرموز والدلالات والمعانى التى تجسدت فى هذا التراث فى أعمالهم الإبداعية المعاصرة. ومنهم من تناول هذه القيم العناصر والمكونات على نحو مباشر، ومنهم من تناولها على نحو غير مباشر من خلال تذويبها فى حقله الإبداعى ليكون لكل ذلك إسقاطاته على اللحظة المعيشة.

يجسد عنوان هذه الدورة أيضا التوجه الأصيل للقائمين على تنظيم الأيام، فهو عنوان دال كل الدلالة على التوجه الأصيل للشارقة، حكومة وشعبا ومؤسسات واعية؛ بأن الخيار الحر الحقيقى فى هذا العالم المضطرب هو الخيار الذى يقوم على استيعاب وتحقيق هذه الثنائية الثقافية والحضارية الدقيقة؛ ثنائية «التراث والمعاصرة» أو بصيغة أخرى «الأصالة والابتكار والإبداع» الجمع الذى يقوم على التمثل والتوفيق لا التلفيق، الاستيعاب العميق لمكونات وعناصر تراثنا الحى المتجدد والسعى للانطلاق إلى آفاق أرحب بإبداعات حرة أصيلة وابتكارات مدهشة تخلب الألباب وتثير الأذهان.

ــ 3 ــ
وكالعادة يلخص شعار الدورة كذلك التوجه الذى تقوده الشارقة عمليا فى احتضان وتنشيط وتشجيع الباحثين والباحثات والمؤدين والمؤديات وكل حملة التراث ومبدعيه، من كل أنحاء العالم لعرض فنونهم وعروضهم، وأفكارهم، والاستماع إلى محاضراتهم ومشاركاتهم وتقديم عروضهم.

فى كل مكان تتجول فيه على أرض الشارقة تجد مثالا حيا وناصعا على هذا التوجه وذلك النزوع فلا تتخلى عن ماضيها وتراثها العريق، وخصوصيتها الثقافية والحضارية، وفى الوقت ذاته ترنو بأعينها إلى المستقبل الواعد وآفاقه الرحبة المتطلعة إلى التواصل مع الآخر، والإفادة من المنجز البشرى والقيم الإنسانية الحضارية، وإشاعة قيم التسامح وقبول الآخر ونبذ التطرف والتعصب والإيمان بوحدة الإنسانية.

ودائما ــ وفى كل مرة أزور فيها الشارقة ــ أكرر وألح فى التكرار أن أجمل ما فى «أيام الشارقة التراثية» هذه الروح الإنسانية الصافية التى تغمر الجميع، وتشيع بين الجميع.. فلا يهم مَن أنت أو مِن أين أتيت أو ما جنسيتك.. المهم ماذا ستقدِّم من إبداع أو فن أو معرفة أو علم كى تسعد الناس وتفيدهم وتمتعهم فى آن..

فقط لغة واحدة يفهمها الجميع فى كل مكان تخطو فيه على أرض الشارقة؛ ترسم البهجة على الوجوه تشيع الفرحة فى القلوب، إنها لغة الفن والإبداع والابتسامة التى يتصافح بها الضيوف فى أرجاء ساحة التراث بقلب الشارقة وبين قاعاته وساحاته الخارجية أو فى مثيلتها بكلباء أو خورفكان أو دبا الحصن أو الذيد..

ــ 4 ــ
من بين أهم فاعليات هذه الدورة المحاضرات والندوات العلمية التى جمعت فى جلساتها نخبة من أميز وأرقى الباحثين المتخصصين فى التراث الثقافى المادى واللا مادى على السواء؛ فالاستماع إلى الدكتور عبدالعزيز المسلم رئيس معهد الشارقة والباحث الفولكلورى المكين وجامع النصوص والحكايات القدير أصبح مناسبة مبهجة للتعرف على روائع الموروث الشفاهى الإماراتى، من شعر نبطى وحكايات وروايات و«خراريف» جهد جمع ميدانى عظيم وأصيل ويستحق التحية والتقدير.

ويتجدد اللقاء أيضا بكبار الباحثين المغاربة الأشقاء، وعلى رأسهم الناقد والباحث القدير سعيد يقطين الذى أسعدنى الحظ بمشاركته فى عديد اللقاءات والجلسات الحوارية، وكذلك الصديق الناقد الأكاديمى البارز شعيب حليفى، صاحب الدراسة الأصيلة «الرواية الفانتاستيكية» التى صدرت عن المجلس الأعلى للقاهرة قبل ما يزيد على العشرين عاما.

وكذلك ندوات المقهى الثقافى بإشراف الدكتور منِّى بونعامة دينامو إدارة المحتوى والنشر بمعهد الشارقة للتراث، وصاحب الدراسات التراثية التاريخية الرصينة.

أقول إن الاستماع إلى كل هؤلاء متعة خالصة فضلا عن العمق والابتكار فى طرح أوراقهم البحثية وطروحاتهم وفرضياتهم المنهجية التى تغطى كل جوانب التراث والمستقبل، ورؤى حفظ التراث وصونه فى كل مكان فى العالم فتحية للإبداع الشعبى وللتراث والمعرفة الإنسانية فى كل زمان ومكان..

ــ 5 ــ
إن دورة جديدة من دورات أيام الشارقة التراثية يكون عنوانها وموضوعها وشعارها الرئيسى «التراث والإبداع» واحد من هذه الجهود الأصيلة والحقيقية التى تسهم فى دفع مزيد من الاهتمام بالتراث وعلاقته بالإبداع ــ قديما وحديثا ــ وإعادة طرحه بشكلٍ علمى ومنهجى عصرى، يكشف عن جوانبه الإبداعية وقيمه الإنسانية فيكون ــ كما كان سابقا ــ نبعا صافيا للإبداع والابتكار والخروج من نفق التقليد والرتابة والتكرار والجمود..
(وللحديث بقية)

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved