الرتابة

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الثلاثاء 11 أبريل 2017 - 9:35 م بتوقيت القاهرة

حاولت وفشلت. حاولت على مر السنين إقناع مسئول النظافة فى مكتبى بأن بعض الفوضى فى ترتيب وضع طفايات السجاير وغيرها من قطع الزينة مطلوب. فشلت معه ومع المسئولة عن النظافة فى منزلى. كلاهما أصر ويصر على أن لكل طفاية أو علبة حلوى ركنا، وأن الذوق الحسن يفرض اصطفاف الأشياء فى خطوط مستقيمة. لم أنس بعد محاولات تلقيننا ونحن أطفال ضرورة ترتيب ألعابنا الخشبية بعد الانتهاء من اللعب فى «صفوف عساكر». بقيت استخدم هذا التعبير إلى يومنا كلما رأيت أشياء غرفة مكتبى وقد اصطفت تتحدى رغبتى الجامحة دائما إلى نفحة من الفوضى.
***
عشت حياتى مقتنعا أن الرتابة عدو الابداع. كنت من هواة مراقبة صفحة النجوم فى السماء عندما كان ممكنا وممتعا رؤية النجوم تتلألأ وتتساقط وتتبادل المواقع، أو هكذا هيئ لنا. قيل لنا ونقول الآن لصغارنا إن الخالق لو أراد لاصطفت النجوم صفوف عساكر ولكان المنظر رتيبا ومملا. كانت على العكس الدرس الأول فى العلاقة بين الخلق والإبداع والتجديد من جهة والفوضى المنظمة من جهة أخرى. أذكر اعجابى الشديد بأرصفة الزلط الملون فى حديقة الحيوان حين كان مهندسو البلدية أو وزارة الزراعة يتمتعون بذوق رفيع فابتعدوا عن الرتابة وقدموا لنا كأطفال نماذج جميلة بقيت محفورة.
***
يفضل بعض الأهل والمعلمين الطفل الذى يمكن التنبؤ بتصرفاته، وهو فى الغالب طفل لا يغامر ولا يبادر، طفل منضبط يحفظ القواعد ويعرف مكانه بين زملائه فلا يتخطاه، هو الأول دائما أو الأخير دائما، هو المطيع والهادئ والملتزم بالصف. هو كالصندوق المفتوح لا لغز فيه ولا أسرار. يكبر فينضم إلى سلالة من الرجال تفضلهم النساء أزواجا والحكومات المستبدة رعايا. يشيخ فلا تراه أو تقابله إلا فى زوايا النسيان. عاش عمره يفكر كالواقفين فى صفوف العساكر أو بمعنى أدق ينتظر الأمر ليفكر، يخاف إن جرب التفكير خارج الصف أن يراه القائد، فالقائد فى حياته منذ طفولته وحتى شيخوخته يعرف فيما يفكر ومتى، أمه كانت تعرف ومعلمه ورئيسه وقائد صفه.
***
عشت فى مجتمعات لا تعرف الرتابة وعشت فى مجتمعات رتيبة. شتان بين الحياة فى هذه وتلك. عشت أخشى وأتفادى المدن التى تنام فى السابعة. عشت أعشق المدن التى لا تنام ومن بعدها المدن التى لا تنام إلا بعد انتصاف الليل. من المدن التى كانت تنام مبكرا عرفت معظم مدن شمال أفريقيا وبكين وبلجراد وسنتياجو عاصمة شيلى أسمع الآن أنها تتغير. من المدن الأخرى عرفت القاهرة لا تنام مبكرا وبيروت وبوينس آيرس ونيويورك وباريس وروما. عشت أيضا فى مجتمعات اختارت أو خضعت لفترة رتابة وهى فى الأصل كارهة للرتابة. أذكر بالتحديد المدة التى خضعت فيها مصر لرتابة طويلة حتى ضجت بالملل وانفجرت. لا شك أيضا فى أن أكثرنا يراقب بالألم الرهيب حجم العنف الذى أغرق بالدم والدمار المدن السورية والعراقية جميع بعد عقود من رتابة متوحشة فرضت على الشعبين.
***
أقول دائما، وعن خبرة، احذروا غضب طفل شعر بالملل. حذرت أيضا من عواقب حالة زواجية «رتيبة». أبعدوا الرتابة بكل تجلياتها وفى كل صورها عن عائلتكم. يقول صديق إنه أنقذ زواجه حين جعل هو وزوجته التغيير المستمر نمط علاقتهما وتصرفاتهما بدلا من نمط التمسك بالمألوف والعادى، أى الرتابة. سمعت وجربت حتى تأكدت من أن الفرد منا يمكن أن «يزهق» من نفسه إذا التزم الرتابة فى حياته مددا أطول من اللازم. طبيعى جدا ومنطقى أيضا أن يتمكن منى «الزهق» إذا قضيت مع نفسى وقتا لا أجددها فيه أو أمارس معها عملا خارجا عن المألوف والمعتاد. النفس أمارة بالملل. والملل، كما نعرف، أمار بالسوء. تعلمت أن الإنسان يضمحل عاطفة وذكاء إذا لم يعاشر غيره من بنى البشر. النفس وحدها موحشة إذا استفردت بنا أو استفردنا بها ورفضت أن تتغير.
***
قرأت عن كتاب لأستاذ يحاضر فى تاريخ الصين لطلبة فى جامعة هارفارد. ينقل البروفسور مايكل بويت عن كونفوشيوس ازدراءه النفس بقوله إننا نخدع «أنفسنا» حين نتصور أن مقدراتنا ملك أيدينا. أكثرنا يزعم أنه يستطيع التحكم فى مستقبله إذا ركز بالقدر الكافى على «نفسه» وتوغل فى أعماقها لترشده وتوجهه نحو المصير الأحسن. حجتنا أن طبيعتنا الصافية موجودة فى أعماق النفس. هذه الحجة، فى عرف كونفوشيوس، كلام فارغ. الموجود فى أعماق النفس هو مزيج من كل شىء، مزيج من أفكار وأمزجة وردود فعل وعواطف متناقضة، وبالتالى يستحيل أن تكون طبيعة النفس الإنسانية صافية. إنه المزيج الذى يجعلنا أهدافا سهلة لعباقرة جوجل والفيسبوك ينفذون من خلال «النفس» إلى شهواتنا ورغباتنا وحاجاتنا وتفاصيلنا لنصبح صفحات مفتوحة لكل من هب ودب.
***
بكل ما أوتيت من رشد تصورت أن أنظمة حكم الرأى الواحد تخطئ فى حق نفسها حين تدفع الشعوب دفعا للانحشار فى خانة الرتابة. إن المشاهدين المجبرين على مشاهدة «قنوات الصدى»، أى قنوات الرأى الواحد، مهددون بالإصابة بأمراض الرتابة. أسوأ هذه الأمراض تدهور إنتاجيتهم وانحدار معدلات إبداعهم وتفسخ منظومة قيمهم الاجتماعية وأقلها سوءا وأسرعها انتشارا التمرد والاحتجاج والثورة. كونفوشيوس كان يحث الشباب على رفض «التنميط» والرتابة فاتهمه خصومه بأنه كان يسعى لتفادى التمرد والثورة وتأمين الحكم. أراد التقريب بين الأجيال فلا يأتى جيل يتهم آباءه وأجداده بأنهم تنكروا له وخانوا العهد. الفلاسفة المعاصرون من أتباع كونوفوشيوس يحذرون ضد وسائط الاتصال الحديثة كالفيسبوك والتغاريد فهذه لا تفتح المجال الإعلامى أمام آراء متنوعة ومتعددة بل العكس. ما يحدث بالفعل هو أن الناس تختار من الأصحاب من يوافق أمزجتهم وطباعهم وأخلاقهم وينتهى الأمر بالالتصاق بهم دون غيرهم. إنها رتابة من نوع جديد يمسك بخناقنا وأجيالنا الناشئة.
***
قاوموا الرتابة. حاربوها. ابدأ يومك بداية مختلفة عن بداية الأمس. ألق بتحية مختلفة أو مبتكرة على كل من تقابل فى طريقك إلى عملك وعلى رؤسائك ومرءوسيك. حاول ألا تفعل فى اليوم الواحد الشىء ذاته مرتين. استخدم مفردات مختلفة للتعبير عن معنى واحد وشوارع مختلفة للوصول إلى نفس الهدف. لا تبدأ مقالك الأسبوعى أو تنهِه بالجملة ذاتها. فاجئ الناس بالتغيير. لا تجلس طويلا على مقعد لا يتغير. لا تكرر سرد قصة بحذافيرها ولا تستخدم صيغة فى المجاملة والاستحسان والاعجاب أكثر من مرة مع أشخاص متعددين مجتمعين فى مكان واحد ولا مع الشخص نفسه مرتين.
***
كن جديدا.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved