ربما نتعلم منهم

خولة مطر
خولة مطر

آخر تحديث: الأحد 11 أبريل 2021 - 6:50 م بتوقيت القاهرة

فى ذاك الصيف الذى يبدو الآن شديد البعد أو كأنه جزء مما علق بالذاكرة ربما من فيلم قديم بالأبيض والأسود عندما كانت المحطة التلفزيونية الوحيدة المتاحة فى بعض دول الخليج هى محطة شركة أرامكو. التى كانت تفتح لساعات محددة فى اليوم الأمر الذى يبدو بعيد التصديق لأبناء الجيل الحالى حيث مئات المحطات التلفزيونية وثراء فى المواد المتوافرة للترفيه وللثقافة لمن يرغب رغم أن الغالبية تميل للأولى وتنسى أن هذا الفضاء الذى شرع أبوابه مع تطورات التقنيات الحديثة قد فتح عوالم واسعة للمعرفة والعلم والتأكد من المعلومة والثقافة.
***
فى ذاك الصيف كانت الرحلة طويلة إلى تلك المدرسة الصيفية الداخلية للبنات بالريف الإنجليزى والهدف هو تعلم اللغة الإنجليزية ومهارات الحياة بعيدا عن حماية العائلة والأهل ودلع الجدات!
***
هناك كان الاستقبال بالتذكير بقواعد الحياة اليومية كل شىء بموعد ولكل أمر وقت محدد. إلا أن الأمر الذى كان أكثر غرابة للفتيات المراهقات القادمات من دفء بيوتهن فى الخليج إلى برودة الثقافة البريطانية وبعدها عن العاطفة كما تبدو فى المعاملة اليومية، الأكثر غرابة هى تحديد كمية المياه التى باستطاعة كل فتاة استخدامها يوميا للاستحمام!! ضحكت الفتيات عندما رأينا أن الكمية هى أقل مما يستخدمنه لغسل أسنانهن فى الصباح والمساء وما بينهما.. هن القادمات من بلاد لا تعرف المطر إلا لسويعات قليلة وفى الأغانى التى تحمل كثيرا من الحميمية وتعبر عن الحاجة له، هن القادمات من تلك الجزيرة التى تغرق شوارعها فى «شبر ميه»! يستغربن أن تكون هذه الكمية المحددة لهن فى بلاد يكثر بها المطر حتى تطفو مياه أنهارها وبحيراتها به. ذاك البلد الذى عرف بكثرة غيومه حتى أن ظهور الشمس كان يعد أمرا يدعو للاحتفال بالخروج والجلوس فى الحدائق العامة مع التخلص من كثير من الملابس!
***
تلك كانت التجربة الأولى وتداعت معها الكثير من المفاجآت والشقاوات والضحك البرىء على الالتزام الصارم الذى لم تعرفه تلك الفتيات القادمات من أرض النخيل والتمر وندى المساءات الصيفية قبل أن تكثر المكيفات التى قتلت حتى تلك المتعة وجعلتها من ذكريات الماضى البعيد.
***
بعدها تعلمت الفتيات أن المحافظة على الماء ومحدودية كميات الأكل التى تقدم لهن والاقتصاد فى كل شىء هو ربما نتاج ما عانت منه تلك البلاد فى الحرب العالمية الثانية والنقص الشديد الذى هو جزء من كل الحروب بل حيث يصبح الماء والطعام مواد للاقتتال أو أسلحة حرب هى الأخرى.
***
الآن وبعد سنين طويلة ومع الانحسار الاقتصادى والانكماش الذى جاء به الفيروس وربما ما قبله من تحولات فى الاقتصاد العالمى وأسباب عديدة أخرى. كلها أدت إلى عدم توفر كل ما كان متاحا بشكل من أشكال «المشاع».. مع هذا بدأ البعض يفهم ربما كيف أن المرء الذى يعانى من النقص فى الاحتياجات الأساسية يعتاد على الاقتصاد وعدم الإسراف والنظر لأبعد من اللحظة والتفكير فى أبعد من النفس أو الأنا فقط ومن بعدى الطوفان.
***
ربما هو الدرس الذى نتعلمه من هذه المرحلة الأكثر حرجا فى العقود الأخيرة لتساوى التأثير بها على كل شعوب الأرض فى المعاناة والإغلاق المستمر الذى أدى كثيرا للتحول إلى العالم الافتراضى فى كل شىءمن المبيع والشراء حتى الصداقات والعلاقات الجميلة منها وتلك التى لا تنمو إلا فى العتمة!
***
ولكن هل تعلم الكثيرون منا معنى المحافظة على «النعمة» والتخطيط لأبعد من النفس واللحظة والتفكير أن ما نراه اليوم أمرا متاحا وعاديا قد يصبح غدا وفى لحظة سريعة أمرا بعيد المنال ربما نتمناه أو نشتهيه أو شيئا من الأحلام الجميلة كتلك اللحظات الجميلة فى بعض الأفلام الكلاسيكية التى كانت تعرض على شاشة تلفزيون «أرامكو»؟
***
بعد عام من التباعد وعدم التنقل والسفر ومحدودية الحركة والتواصل والإغلاق التام أو الجزئى والخسائر التى كثير منها أكبر من فقدان علبة الشوكولاتة البلجيكية الشهية من على أرفف السوبرماركت، بل أساسها أن لا أحد نعرفه لم يفقد عزيزا وحبيبا رحلوا دون وداع يليق بهم ودون أن نغلق ذاك الفصل من الحياة معهم. بعد كل ذلك يعيد السؤال نفسه تكرارا ومرارا فلو عادت المطارات لازدحامها والمتاجر لاكتظاظ الأرفف بما لذ وطاب والشوارع والمقاهى والمطاعم والمسارح دور عرض الأفلام وكل الصخب الذى كان، لو عاد هل تعلمنا كيف نمسك باللحظة وبالأحبة وباللذة البعيدة عن الحسيات السطحية.. هل تعلمنا كما تعلم بعضهم بعد حربهم العالمية الثانية ومعاناتها التى لا تزال ترسم حياتهم اليومية بكثير من الحرص والحذر عكس الإسراف والبذخ والاستهتار الذى يعيشه بعضنا أو ربما معظمنا؟

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved