فى الجاهلية السياسية

فهمي هويدي
فهمي هويدي

آخر تحديث: الإثنين 11 مايو 2009 - 7:35 م بتوقيت القاهرة

 لا أعرف مرحلة فى التاريخ العربى المعاصر اختلطت فيها الأوراق وانقلبت المعايير مثل ما هو حاصل الآن، الأمر الذى يسوغ لى أن أصف أيامنا هذه بأنها زمن الجاهلية السياسية.

(1)
الجاهلية فى القاموس المحيط هى عدم إدراك ما لا بد من معرفته. وعدم الإدراك هذا له أسباب عدة أزعم أنها تتراوح بين العبط والاستعباط. فعندما يصرح الرئيس «الإسرائيلى» شمعون بيريز أمام مؤتمر مجلس العلاقات الأمريكية «الإسرائيلية» (إيباك) مثلا بأن إيران هى الخطر المشترك الذى يهدد «إسرائيل» والعرب، فذلك هو الاستعباط حقا. أما إذا صدقه أحد من العرب فذلك هو العبط بعينه.

من الجاهلية السياسية أن نفقد البوصلة التى تحدد الوجهة والترتيب الذى يحدد لها «واجب الوقت»، بما يؤدى إليه من خلل فى ترتيب الأولويات. فقد كان من الطبيعى والمنطقى بعد العدوان «الإسرائيلى» على غزة أن ينشغل العالم العربى عند الحد الأدنى برفع الحصار وإعمار القطاع بعد تدميره. ولأن «إسرائيل» تذرعت فى عدوانها بإطلاق الصواريخ الفلسطينية بعد انتهاء فترة «التهدئة» المتفق عليها، فإن فصائل المقاومة ربطت قرار التهدئة بمصير الحصار، وأعلنت انه لا تهدئة مع استمراره. ولكن شيئا من ذلك لم يحدث، فلا رفع الحصار ولا بدأ الإعمار، واستجابت المقاومة للضغوط العربية التى مورست لوقف إطلاق الصواريخ، وتم فرض التهدئة من جانب واحد. ومن ثم فازت بها «إسرائيل» دون أن تدفع مقابلها شيئا يذكر.

كان بوسع أى جهد عربى واع أن يستخدم ورقة العدوان الوحشى الذى انفضح أمره فى العالم بأسره للانتقال من الدفاع إلى الهجوم، ومن ثم كسب عدة نقاط للموقف الفلسطينى، وكانت هناك أكثر من فرصة لتحقيق تلك المكاسب النسبية، خصوصا أن الإدانات الدولية كانت معلنة، والأجواء الإعلامية كانت مواتية، وبعض المحاكم الأوروبية كانت مستعدة للنظر فى دعاوى جرائم الحرب التى تقدم ضد القادة «الإسرائيليين»، وهو ما تحسبت له إسرائيل حين تكتمت أسماء أولئك القادة الذين ارتكبوا الجرائم، وحذرتهم من السفر إلى الخارج.

لم يحدث شىء من ذلك أيضا، حتى تقصى حقائق ما جرى أثناء العدوان لم يتم. واستطاعت «إسرائيل» أن تشغل الدول الغربية والعربية المعنية آنذاك بملف الأنفاق وتهريب السلاح إلى غزة، حتى أصبحت تلك هى المشكلة التى استدعت عقد اتفاق خاص مع الولايات المتحدة واستصدار قرار من مجلس الأمن. ومورس العبط والاستعباط فى هذه المسألة، لان أحدا لم يقل إن الاحتلال هو المشكلة الحقيقة، التى فرضت الأنفاق وتهريب السلاح.

(2)
بعد العدوان على غزة، حدث تطوران هامان، أحدهما أن إدارة أمريكية جديدة جاءت إلى البيت الأبيض وتبنت خطابا تصالحيا حاول أن يمتص أسباب الغضب والكراهية والسقوط الأخلاقى الذى لاحق سمعة الولايات المتحدة خصوصا فى العالمين العربى والإسلامى. التطور الثانى أن حكومة أكثر تطرفا وشراسة تولت السلطة فى «إسرائيل». وكان وجود بنيامين نتنياهو على رأس الحكومة وتعيين أفيجدور ليبرمان نائبا له ووزيرا للخارجية، كافيا للتدليل على أننا بصدد حكومة جاءت للتصعيد واللاحل.

الحكومة «الإسرائيلية» الجديدة جاءت متبنية مواقف وأطروحات أكثر فجاجة من مواقف حكومة أولمرت التى سبقتها. وهى لم تسبب حرجا للطرف الفلسطينى المفاوض ولدول «الاعتدال» فحسب، التى راهنت على التسوية السلمية وتعلقت بالمبادرة العربية، وإنما سببت حرجا أيضا للولايات المتحدة ذاتها، التى رعت مؤتمر أنابوليس وتبنت حل الدولتين الذى كان «الجزرة» التى لوحت بها إدارة بوش للعرب.

فى الفترة التى تولى فيها نتنياهو رئاسة الحكومة للمرة الأولى (ما بين عامى 96 و1999) تحدث عن ثلاث لاءات: لا انسحاب من الجولان ـ لا حديث عن القدس ـ لا محادثات فى ظل أى شروط مسبقة. وحين تولى السلطة هذه المرة فإنه أضاف «لا» رابعة رفض فيها حل الدولتين. وأبدى استعدادا «للتنازل» النسبى حين اشترط موافقة الفلسطينيين على الاعتراف بـ«إسرائيل» دولة يهودية (وهو ما يعنى طرد فلسطينى عام 48) إذا ما أرادوا فتح ملف الدولة الفلسطينية. وإلا فليس أمامهم سوى السلام الاقتصادى مع «إسرائيل»، علما بأن إحداث طفرة فى الاستيطان يشكل نصا صريحا فى برنامج حكومته.

أما ليبرمان فهو الذى دعا إلى تدمير السد العالى إذا ما نشبت حرب بين مصر و«إسرائيل». وأهان الرئيس حسنى مبارك فى جلسة علنية للكنيست. وتحدث بعد تسلمه الوزارة عن تقليص عدد الجيش المصرى. كما دعا إلى طرد فلسطينيى 48 وإلقاء المعتقلين الفلسطينيين (11 ألفا) فى البحر الميت للخلاص منهم بإغراقهم فيه. وهو من الرافضين لفكرة الدولة الفلسطينية. وفى حديث أدلى به إلى صحيفة «جيروسالم بوست» قال إن القضية الفلسطينية يمكن أن تنتظر، مشيرا إلى أن الصراع فى أيرلندا الشمالية استمر 800 سنة قبل أن يحل!

(3)
هذه الخلفيات بدت كفيلة بأن تضع إسرائيل فى موقف سياسى دفاعى، كان يمكن استثماره لو إن فى العالم العربى من يملك الإرادة والعزم ويجيد الجمع والطرح، من ثم يدرك ما ينبغى عمله. ولكن الذى حدث أن إسرائيل قلبت الطاولة وتحولت من الدفاع إلى الهجوم واستخدمت تحالفاتها العربية فى ذلك. وكانت الورقة الإيرانية هى سبيلها لإحداث الانقلاب فى المشهد.

ذلك أن إيران الثورة الإسلامية خرجت من رحم العداء للشاه وللولايات المتحدة وإسرائيل. وإيران النووية ــ لمجرد أنها تملك المعرفة حتى إذا كانت للأغراض السلمية ــ تعنى تحديا إضافيا لـ«إسرائيل» ينازعها فى التفرد بصدارة القوة فى منطقة الشرق الأوسط. وهى من هذه الزاوية يفترض أن تكون إضافة مرحبا بها للإرادة العربية الساعية إلى إنهاء الاحتلال واستعادة الحقوق المسلوبة. أما إيران الداعمة للقوى التى انحازت إلى المقاومة الفلسطينية، فإنها تعنى إيغالا فى التحدى ورفعا لسقفه، الأمر الذى اعتبرته «إسرائيل» تهديدا لنفوذها فى المنطقة ولكل مشروعها. وهى التى تصورت أن الساحة قد خلت لها، ولم يعد هناك من ينازعها نفوذها أو يتحداها منذ توقيع اتفاقيات كامب ديفيد فى عام 1979 وأوسلو مع قيادة منظمة التحرير الفلسطينية عام 1993. وحين اختبر التحدى أثناء المواجهة التى تمت فى عام 2006 بين القوات «الإسرائيلية» وبين عناصر حزب الله، ولقيت فيها تلك القوات أول هزيمة عربية فى تاريخ الدولة العبرية، فإن هذه التجربة الفضيحة غدت مفصلا مهما فى علاقات العداء بين الطرفين. ذلك أن «إسرائيل» اعتبرت أن الدور الإيرانى بات يشكل خطرا وجوديا لمشروعها، وكان طبيعيا أن يضاعف من قلقها مدى وحجم هذا الدور إذا ما تحولت إيران إلى قوة نووية، الأمر الذى يفسر لنا لماذا اعتبرت أن إيران تمثل الخطر الاستراتيجى الأول الذى يهددها، ولماذا استنفر اللوبى الصهيونى فى الولايات المتحدة والمحافظين الجدد فى البيت الأبيض للتضامن مع تل أبيب فى الاحتشاد ضد إيران إلى حد الدخول فى تفاصيل توجيه ضربة عسكرية تقوض نظامها. وظل السؤال الذى يشغل هذه الأطراف هو توقيت تلك الضربة وتهيئة الجو المناسب سياسيا وإقليميا لتوجيهها.

إذا جاز لنا أن نلخص فإننا نفهم أن تعتبر «إسرائيل» إيران خطرا يهدد استراتيجيتها، ونفهم أن تتضامن معها الولايات المتحدة الخاضعة لنفوذ اللوبى الصهيونى والمحافظين الجدد، فى الوقت ذاته فإن التناقض الرئيسى بين إسرائيل وإيران يفترض أن يكون فى صالح الموقف العربى الذى يعتبر أنه فى تناقض رئيسى مع «إسرائيل». وهى النتيجة المنطقية التى تعبر عنها المقولة الشهيرة عدو عدوى صديقى. والصداقة لا تلغى الاختلاف، ولكنها فى هذه الحالة تقوم على معيار رشيد يفرق بين التناقض الرئيسى والثانوى، أو بين ما هو أصلى وفرعى، ذلك أننا نفهم فى فقه الاختلاف ومذاهبه أن الاتفاق فى الأصول حد كاف، ولا غضاضة بعد ذلك فى أى اختلاف فى الفروع. وهو الحاصل فى الدين ما بالك به فى السياسة.

(4)
لابد أن نعطل العقل ونلغى المنطق لنستوعب الذى جرى فى الآونة الأخيرة. إذ فى حين استمرت «إسرائيل» فى استعلائها وحصارها للفلسطينيين وتهويدها للقدس وتوسعاتها الاستيطانية ورفضها للمبادرة العربية، حدث انقلاب فى البوصلة العربية بحيث توارى الخطر «الإسرائيلى» المدجج بمائتى رأس نووى، وظهر فى الفضاء العربى عنوان «الخطر الإيرانى» والمخاوف من تطلعاته النووية المستقبلية. لم يحدث ذلك فجأة بطبيعة الحال، ولكنه بدأ بالتصعيد فى مسألة الجزر الثلاث، وبإثارة موضوع التشييع فى البلاد العربية، وتذرع بالتمدد الإيرانى فى العراق، الأمر الذى استصحب حديثا مبكرا عن الهلال الشيعى، ثم امتد إلى التنديد بحزب الله فى لبنان ومحاولة تأجيج الفتنة الطائفية هناك. وانتهى الأمر بإثارة مسألة خلية حزب الله، وقدمت إلى الرأى العام المصرى والعربى بحسبانها تهديدا للأمن القومى المصرى، مرشحا للتكرار فى أقطار عربية أخرى. وجاءت هذه الإشارات التى استقبلت بفرح غامر فى «إسرائيل» دالة على أن التناقضات الثانوية هيمنت وتحولت إلى رئيسية، الأمر الذى شجع شمعون بيريز على أن يسوق المشهد فى واشنطن ويتحدث عن إيران باعتبارها خـطرا مشتركا يهدد العرب «وإسرائيل» معا.

لا يستطيع المرء أن يخفى شعوره بالخزى والعار وهو يقول إن ما قاله بيريز لم يكن ادعاء «إسرائيليا» صرفا، ولكنه كان يستند أيضا إلى عدد من الشهادات المزورة التى ظهرت فى بعض وسائل الإعلام العربية وثيقة الصلة بأنظمة الاعتدال، حيث لا يستطيع أى متابع أن ينكر أن هناك تعبئة واسعة النطاق للاستنفار والتحريض ضد ما يسمى بالخطر الإيرانى. ولا بد أن يثير انتباهنا فى هذا السياق أن ندوتين عقدتا بالرياض والقاهرة فى الأسبوع الماضى أسهمتا بصورة أو أخرى فى دق أجراس التخويف من ذلك «الخطر».

ليست هذه هى المفاجأة الوحيدة، لأن المفاجأة الأكثر إدهاشا ان الإدارة الأمريكية الجديدة دخلت مؤخرا فى حوار مع إيران فى إطار مسعاها التصالحى والتفاوضى لتحقيق مصالحها بالطرق الدبلوماسية. وهو ما بدا انه أثار حفيظة بعض العواصم العربية التى ذهبت بعيدا فى التصعيد والاشتباك مع إيران، حتى اعتبرتها «الشيطان الأكبر» الجديد. الأمر الذى دفع واشنطن إلى إيفاد وزير دفاعها روبرت جيتس إلى القاهرة والرياض لتهدئة خواطر مسئوليها، وإقناعهم بأن الانفتاح الأمريكى على طهران لن يكون على حسابهم.

لقد اعتبرت إيران يوما ما أن الولايات المتحدة هى الشيطان الأكبر، ولكن هذا الشيطان غير من سياسته بعد ثلاثين عاما ووجد أن من مصلحته أن ينفتح على إيران ـ وفى تلك اللحظة كان بعض العرب قد حولوا إيران إلى شيطان أكبر ودخلوا فى معركة سياسية مفتوحة معها، دون أن يكون هناك أفق واضح لأى مصلحة لهم فى ذلك، ودون أن يدركوا أن «إسرائيل» المتربصة هى الفائز الأوحد فى تلك المعركة ـ أخشى ألا يفى مصطلح «الجاهلية السياسية» بحق وصف هذا المشهد.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved