طيور الحب

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: الأحد 12 مايو 2019 - 10:23 ص بتوقيت القاهرة

رحيل والدة صديق بعد فترة قصيرة من وفاة الأب ذكرني بطيور الحب الملونة التي اقتنيتها أكثر من مرة وأنا طفلة. وهو جنس من الببغاوات الإفريقية الصغيرة التي تعرف أيضا "بالببغاء المُتَيَم" لأنها تعيش كزوجين معظم حياتها، وعندما يموت أحدهما يظل الآخر هائما على وجهه في القفص. يصوم عن الأكل ويضطرب. وحده يبقى صوته ينادي شريكه الذي اختفى وأربكه، وتركه يعاني الوحدة والألم. وغالبا كان أهلي يحاولون شراء زوج آخر ووضعه في القفص نفسه بأسرع وقت ممكن، حتى لا يفترس شعور العزلة العصفور الباقي، وكان كثيرا ما يرفض الشريك الجديد ولا يطيقه، ربما بسبب فارق السن أو اختلاف العادات. لم أكن أفهم أن سقما أصابه وأن رفضه للحياة سببه الحب. لا أظن أنه ارتكب ذنوبا يكفر عنها، لكنه يستغيث ويطالب بعودة الشريك الذي تمتع بصحبته طوال حياته التي قد تصل إلى عشرة سنوات أو خمسة عشر سنة، وهو معدل عمر "طيور الحب". مثل روميو وجولييت لا يستطيع أن يعيش أحدهما بلا الآخر، لذا سمي هذا النوع أيضا "بالعصافير التي لا تفترق". ومن هنا سر تراجيديا الموت التي تميز حكاياتهم.

***
فرق الموت من لا يفترقان فاستحالت الحياة وشعر طرف بالغبن والحرقة، مثل بطلات القصص الخيالية اللواتي أحببتهن. بدت مصائرهما مجدولة معا، وكأن هناك خيط غير مرئي يربطهما. وينطبق ذلك على الذكر كما الأنثى التي طالما ملأت الفضاءات الخالية في حياته. أحزان الحب تلك نلاحظها في العديد من أجناس الطيور والحيوانات التي تعرف بوفائها الشديد، ورفضها التام لتعدد الأزواج والزوجات، ومنها على سبيل المثال لا الحصر البجع الذي يظل عازبا إذا توفي شريكه، ويرفض الزواج من آخر، وقد يموت من القهر، فقد اعتاد أن يعوم معه وقد تعانقت رقابهما، وصارا رمزا للحب في كل مكان وزمان. كذلك هو الحال بالنسبة لطائر الباتروس واليمام، فمنذ اللحظة التي يتقدم ذكر الأخير نحو الأنثى بأجنحته الصلبة، وهو نافش ريشه ونافخ صدره، يتآلفا وتصبح هي "يمامة حياته". أما الذئاب، فبخلاف ما هو شائع عنها من مكر وخداع، على الصعيد العائلي هي رمز للإخلاص الذي لا نجده في كثير من الأحيان لدى البشر، وغيرها وغيرها من الأمثلة التي تميز عالم الحيوان.

***
يحكي الأصدقاء عن مشاعر أحد الوالدين عندما يفقد الآخر، خاصة من تقدم العمر بهما معاً واكتشفا بمرور سنوات الزواج أنهما قد خلقا لبعضهما البعض. نجح رباطهما بفضل مزيج من الحب والصداقة والعشرة والأمان والتواطئ والكثير من التعاطف، فبدون أن يضع كل واحد مكان الآخر في مواقف بعينها ليتفهمه لا يمكن أن تستقيم الأمور. يعطي هؤلاء دليلا على وجود الحب الأبدي الذي يزداد مع السنين. زوج يتوفى في الذكرى السنوية لزوجته أو بحلول الأربعين. نذهب لتقديم العزاء ولا ندري ما الذي يمكن أن نقوله للأبناء وهم في شدة الألم، لكنهم عاشوا في بيت غذاه الحب، فاستقوا معناه وغالبا سيطبقوه في حياتهم أو سيظلوا يبحثون عن المشاعر نفسها لدى آخرين.

نقرأ العديد من القصص حول أزواج ماتوا يدا بيد، وفي أحضان بعضهما بعد ستين أو سبعين سنة من التعارف والعشرة، ليست هي القاعدة، لكنها موجودة، وكان آخرها في مارس الماضي، بولاية ميتشجان الأمريكية، حين توفي الثنائي بيل وجولي بعد قرابة 60 عاما من الزواج، وقد تعرفا منذ أن كانا في سن الرابعة عشر من عمريهما. مرض أحدهما، فتبعه الآخر، ثم أخذ في الشعور بالأعراض نفسها، وهما في مكانين مختلفين، فإذا ارتفعت درجة حرارة الزوجة، عانى الزوج من العرض ذاته في مشفى بعيد. وانتهى الأمر بموتهما بفارق ساعات قليلة، وقد تشابكت أيديهما. تماما كعصافير الحب.

***
ليست دعوة لتراجيديا الموت والحب، بل مجرد دردشة عابرة، قائمة في بعضها على تحليل كلام الأصدقاء والأهل. هناك بالطبع من تستمر به الحياة بحلوها ومرها، من يتمسك بها كل يوم أكثر مما سبقه ويستطيع أحيانا أن يبدأ من جديد، ومعه كل الحق. وهناك من يظل قابضا على الذكريات، يتلمس روح الشريك في كل ما يرى ويفعل. ينظر إلى الكرسي الذي اعتاد قراءة الصحف، وهو رابض عليه بلباس النوم. من يظل يتخيل ردة فعل الشريك الذي ترك، تجاه هذا الموقف أو ذاك، ليسترشد به. من يرفض مغادرة المنزل الذي قضي فيه حياتهما والانتقال للعيش مع الأبناء، كي يبقى حيث تركه الآخر، تضيء روحه الغرفة ليلا، بعد انطفاء الأنوار، حين يخلو بنفسه... فكل منا يدير ذكرياته ومشاعره بطرق مختلفة، ولا يمكن أن نلتزم جميعا بحداد العصافير.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved