أحداث وشجون والهاتف المحمول

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الثلاثاء 11 مايو 2021 - 7:20 م بتوقيت القاهرة

شاء حظى وتدريبى أن أنشأ وأنضج منصتا جيدا. حسب الكبار وكلهم رحلوا كنت طفلا هادئا. كبرت فاكتشف بعضهم أن ليس وراء الهدوء أكثر من رغبة فى الإنصات، وفى رأى آخرين كان الإنصات أكثر من رغبة، كان لهفة. نضجت اللهفة مع الزمن لتصبح هواية، سيطرت الهواية فأطل الإدمان. أعترف أننى حتى هذا اليوم لم أتمكن من التعرف على عائد كل إدمان أدمنته. تعرفت فى مرحلة أو أخرى على عائد إدمان دخان السيجارة ثم تعرفت على عائد إدمان الكافيين فى فنجان القهوة وأظن أن معرفة العائد من الإدمان سهل كثيرا مهمة التخلص منهما. أما إدمان هواية الإنصات إلى ما يدور بين الناس من همس وأحاديث فأمر يختلف تماما. أشكر حرصى الذى جعل إدمانى للإنصات لا يتدنى يوما إلى مستوى التنصت ولم يتحول من هواية أقدرها أعظم تقدير إلى حرفية لم تحظ من جانبى بأى درجة من التقدير وإن كنت لا أدينها تماما. حرصت طول الوقت وفى كل المهن التى مارست العمل فى محاريبها أن أستأذن ثم أنصت. أحيانا يفرضون عليك أن تسمع.. كانت أمى حريصة على ألا يصل إلى سمعى ما يعرضها لضرورة الإجابة على استفسارات صعبة. كثيرا ما تعمدت عدم اصطحابى فى زيارات ولقاءات بعينها. أحيانا أخرى كان الأمر خارج سلطتها كما كان يحدث عندما تجمعنا مقصورة الحريم فى الترام مع رفيقات مشاوير أو رحلات طويلة. يا ألله كم كنت أعشق رفقتها فى تلك المشاوير!!
***
كبرت. تغيرت خصال إلا هواية الإنصات. أذكر أننى كنت فى قطار يحملنى إلى عروسى الخالدة، إلى الإسكندرية، وكان فى العربة معنا هاتف يحمله رجل قرر أن يتابع عمل مكتبه بصوت جهورى من مقعده غير البعيد عن مقعدى. استمعنا، أقصد نحن الركاب الذين احتلوا مقاعد الصفوف الأربع الأقرب إلى موقعه فى العربة، استمعنا بوضوح تام نحن الركاب فى العربة وسكرتيرة الرجل المحترم فى مكتبها على الطرف الآخر من الهاتف، إلى حكاية فساد على مستوى عال لا ينقصها أسماء مشهورة أو تعريف بمناصب وأرقام بمبالغ عن عمولات ورشى أو عناوين صفقات قادمة.
***
وفى رحلة أخرى إلى العروس نفسها، الإسكندرية، مستقلا وسيلة المواصلات ذاتها ارتفع فى جنبات عربة القطار صوت امرأة. انتبهنا بعد قليل إلى أنه صادر من فم راكبة هى أيضا من حاملات الهواتف المنقولة. سمعناها تؤنب مساعدتها المنزلية على التأخير فى الوصول إلى مقر عملها. ثم انتقلت لتسأل عن نشاطها منذ لحظة وصولها لتعرف أن «البيه» كلفها بإعداد فطور الصباح وقضى وقتا طويلا يقرأ الصحف ويشرب القهوة. قاطعتها الراكبة بانفعال لم يمر مرور الكرام على آذان السامعين من بقية السامعين من الركاب ثم راحت تتلو عليها قائمة بواجبات قيد التنفيذ فى شتى أنحاء الشقة، أو بالأصح تتلو عليها عناوين بنود شتى لقوائم مختلفة، قائمة لكل غرفة من الغرف الست وقائمة لكل حمام من الحمامات الأربعة. سمعناها تنتقل مع خادمتها من غرفة إلى أخرى هذا فى حال أنها لم تقرر أن النظافة فى الغرفة التى انتهينا للتو من تنظيفها وإغلاق شبابيكها وإطفاء أنوارها ليست على المستوى المعتاد فتطلب من الخادمة إعادة الكرة. فإذا بالخادمة تعلن بصوت مسموع لى وأنا أقرب الغرباء إلى الهاتف المحمول أنها فى طريقها إلى مكان ما فى الشقة لتأتى بالمكنسة الكهربية. عادت، الشغالة ومعها المكنسة، ثوان وصدحت المكنسة بصوتها المزعج إثباتا لا يقبل الشك فى بدء دورة للنظافة المتجددة. لا يفوت على السيدة أن ترفع صوتها ليعلو على صوت احتكاك عجلات القطار الحديدية بقضبانها وعلى صوت المكنسة الكهربية لتسأل الخادمة إن كان «البيه» رب الدار ترك سهوا أوراقا أو نقودا فى جيب القميص أو غيره من الجيوب. إن حدث فلتحتفظ بها إلى الغد لتسلمها لربة البيت باليد.
***
قدرت أن المقهى الذى تعودت ارتياده فى هذه الضاحية سوف يكون خاليا من الزبائن خلال ساعة الإفطار فى شهر رمضان. أسأت التقدير. حملت الايباد وهاتفى المحمول وتسلحت بأدويتى المستحقة هذه الساعة والساعة التالية. وصلت المقهى لأجد المائدة المجاورة لمائدتى شغلت بعائلة من ثلاثة، رجل وامرأة فى أواسط العمر وطفل فى العاشرة أو أقل. أعترف واعتذر بداية، فأواسط العمر لم تعد تعنى لى ما تعنيه لغالبية من أعرفهم. الرجل والمرأة اللذين احتلا المائدة المجاورة لم يتجاوز أى منهما الثلاثين من عمره فكيف بالله أسبغ عليهما صفة أواسط العمر. أعتذر. الرجل بدا لى إنسانا استهلكت شبابه ورجولته سنوات أو شراكة صعبة فى حين بدت شريكته بالنسبة لى لوحة فنية لامرأة رائعة الجمال ضربتها شمس حامية فشحبت ألوانها وزاغت عيناها وجفت شفتاها. لأول وهلة لى بعد جلوسى أحسست كما يحس من مسه شيطان. حكمت بالنظر ودون تروى على القضية المطروحة أمامى على المائدة المقابلة لمائدتى. أدنت الطفل. الطفل مسئول عما جرى لهذه العائلة وما سيجرى لها فى المستقبل.
***
تركت الوهلة الأولى تمر بل واستعجلت مرورها. كتمت الحكم. رسمت على وجهى سماحة واستعدت إلى نفسى براءتها واستعدادها لتفهم أو تتفهم. أدرت للعائلة بعض ظهرى وفتحت أدوات تواصلى للتحدث مع آخرين بعيدين. قررت أن أبدو متجاهلا وجود الثلاثة. خفت إن كشفت عن وجهى يعثرون على ضالتهم ومفتاح الوعى عندى. خفت يكتشفون حجم فضولى فيهجمون. تحدث الطفل. راح يقرأ عليهما من هاتفه المحمول. قرأ أوصافا لهما لا تجوز. قرأ تفاصيل عن علاقات حميمة لا أعرف من دله عليها. قرأ عليهما وفى حضورى والشر يتطاير أن يذهبا كلاهما إلى الجحيم، أما هو فسوف يجد من يأخذه معه إلى بيته، و«سيكون بيته أحسن من بيتنا». الأب يغلى ولا ينطق. الأم ترتعش ركبتاها وقد جلست خلفى أحس بها تستجدى تدخلى، بينما الطفل يواصل حديثه إليهما بهدوء مخيف وعيناه لا تفارقان شاشة الهاتف المحمول. تجمدت لم أعرف كيف أساعد الأهل. الطفل فى حال خطيرة تتدهور ثانية بعد أخرى، أنا نفسى لم أعد احتمل الضغط.
***
من خلفى تسرب صوتها هامسا وناعما بكلمات متباعدة مبللة بدموع لا أراها. سمعتها تتوسل أن لا أتدخل. «اترك المكان وعد من حيث أتيت. قضيتنا عويصة على الحل. أرجوك لا تحاول. الطفل يعيش حياة الروبوتات الشريرة التى تزخر بها أفلام الخيال العلمى. ابننا يكرهنا ويتمنى موتنا.«
***
فى طريق رحيلى استدعيت النادلة وخرجنا معا من المقهى. طلبت منها التنصت على الأحاديث المتبادلة بين شاغلى هذه المائدة وإبلاغى فى حال تدهورت الأمور. تلكأت النادلة فى الفهم وفى الاستجابة. لم أنم تلك الليلة. كان يجب أن أتنصت بنفسى ولا أوكل هذه المهمة الجليلة إلى أحد.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved