لهذه المدن.. من قلبى سلام

يوسف الحسن
يوسف الحسن

آخر تحديث: الثلاثاء 11 مايو 2021 - 7:35 م بتوقيت القاهرة

فى ليلة العيد تحضر إلى الذاكرة مدن شوَهها الشر والقبح وظلم الإنسان لأخيه الإنسان، مدن كانت منارات مضيئة ترشد الضالين وتنذر الجائرين، وتفرح الروح وتبهج القلب.
تحضر القدس، سُرة الأرض، وهى واقفة وحدها فى عراء زمنها الأسير، ضيَعوها وبكوا، وباعوا كرومها و«صخرتها» و«قيامتها»، ليشتروا سجادة حمراء ولقبا، وأمنا مغشوشا.
تحضر أوجاع أولادها، وهى مُسجاة فى أسواق خبثاء وذئاب ونخاسين، ويكبر جرحها، وتئن وهى تسمع ناى الراعى فى ضواحيها وعبر أسوارها العتيقة، ماذا يقول الناى يا قدس، يا مدينة الصلاة والعشق الإلهي؟ وماذا تقول تراتيل صلوات «القيامة» وحيث مر السيد المسيح عليه السلام؟
هل ما زلت يا قدس تحصين الأنبياء الذين مروا على ترابك المبارك، كلما حان الوجد؟
كم أخشى أن يمتد ليلك حتى المساء، ويطول الطريق إليك، لكن المهم أن لا يضيع الطريق.
ماذا تقول ناى الراعى وهو عائد مع «مَعِيزه» الأسود إلى ديرتها عند الغروب؟ وكيف ينسى الراعى عصاه؟ أم أن ما فيه من آثار الظلم ما يغنيه عن حمل «مجرد عصا»، أم لعل العصا قد صودرت منه، وهو يمشى خلال يومه المُقطع بالحواجز العسكرية وأبراج المراقبة والمستوطنات ودعاة «اقتلوا العرب»؟
كيف تجرَأ الراعى الفقير على تربية ماعز أسود، وقطف زعتر برى وهما «جريمة قانونية»؟ رغم أن الماعز الأسود، يعيش مع أجداد أجدادك منذ آلاف السنين، وكانت ومازالت تأكل الأشواك وتحمى الغابات من الحرائق ومنضبطة وصديقة للبيئة.
تحضرين يا سُرة الأرض فى ليلة العيد، تُرتلين ما تيسر من الكتاب، ووصايا المحبة العشر الربانية، وتنتظرين أن تصهل فى مفاصلك الخيول..
* * *
وتحضر بيروت، وتتمدد فى الذاكرة كما لو أنها حورية البحر، مليئة بالعنفوان والحرية، هكذا حضرت، أو كانت تحضر.
قالت لى صاحبتى: «بيروت.. لا تَمُتَ لبيروت التى كنت تعرفها بصلة، حتى أخلاق الناس تغيرت، هربت الألفة، وحضر الوجع والمعاناة والمرارة، والابتذال والسفهاء».
«اختفى جمال الحُورية، وهاجر الحلم، وشوه الفساد روحها، وسلمت مفاتيحها بسهولة للكوابيس الثقيلة وللأغاوات ولفراعنة صغار.. ولصوص كبار».
تنهدت صاحبتى وقالت: «ذهب الحوار والجدل والفن والمعاجم والقواميس والإبداع والمسرة، واختفى سر بيروت للحياة، وانهزم أمام سطوة الكراهية والخنادق المتبادلة، وسرديات الخوف والجوع، وحروب الآخرين السرية على ملاعبها، وغلبت على أبنائها ولاءات الطائفة والمصالح الضيقة بدلا من الولاء الوطنى والصالح العام.
وقالت وهى تتوجع «بيروت، ليست الحجارة والجبل والخضرة وذكريات السرو والصنوبر، والمناشير الملصقة على الجدران، وشذى المطر وعبير الريحان الذى كنت تذوب أمام عطره، ولا المقاهى والأغنية «وفيروزتك» وصحيفتك ومجلتك وجامعتك إياها، بيروت الآن غير قادرة على دخول المستقبل».
صمتت والدمع فى عينيها، وراحت تسأل وكأنها تهذى: «كيف أسلمت يا بيروت للموج جسدك وسرك للحياة، واصطادوا فى بَرك كل جميل فيك، وزرعوا المرارة والملوحة فى حَلْقِك؟
ما فائدة بندقية فى اليد تعطى الإنسان قدرا من الثقة بالنفس والأمان، وهو يسمع بكاء الأطفال ويشاهد انفراط أعمدة الوطن وفساد كل شىء، بما فيه الملح نفسه، ولا يخجل من النفايات التى تملأ الساحات، ولا من جرثومة «المازوشية» التى صارت جزءا من خلايا الهوية والسلوك؟
وصمتت، وهى تهمس: أعرف أنك ستقول لى: لا تحزنى.. ستنهض بيروت مثل طائر الفينيق، ولو بعد حين.
* * *
وتحضر دمشق، تدغدغ الذاكرة، وتستدعى صور الشام وهى المسكونة بروح العروبة السمحة، المتجاوزة للعصبويات الطوائفية والانغلاق، وكيف انكسر خاطرها فى العقدين الماضيين. انكسرت كمئذنة وهى تتوضأ بضوء النهار.
اليوم، نعرف الأسماء والأشياء والأسباب والمآلات، ووجوه كل من ظلم الشام وأذلها، وكل من سرق وذبح الياسمين، وسلح زناة الأرض، وشرد الأطفال وقتل أحلام النهوض، واغتال الشعراء وهدم التماثيل الأثرية التاريخية وقتل الإمام وهو يُصلى، وفتح أبواب أسوارها أمام كل أشرار أقوام الأرض. وتغير وجه «رمضان الشام» الأخضر، وصار بلون الدم والإعياء.
قال شاعر ذات يوم: «حينما تبكى دمشق.. لا يأتى بعد بكائها مطر»، وكلما ذكرتها، يخفق القلب بتراتيل سماوية تأتى إلى من بعيد من الجامع الأموى، ويرحل الفكر إلى هناك ويسائل عن عينى «معاوية» ويقرأ الفاتحة أمام قبر «خالد» فى حمص، ويهمس: «ألا سيف تؤجره، فكل أسيافنا قد أصبحت خشبا».
متى العودة يا شام، إلى حضن عروبتك الدافئ!! ومتى يعود «وجهك ضاحك القسمات طلقُ» كما قال أحمد شوقى ذات يوم فى الزمن الجميل.
آن الأوان يا شام، ورغم «جراحك التى لا ضفاف لها»،أن تلملمى جراحك وتضمى أبناءك، وتعيدى قراءة «سِفر» الذى جرى، لقد طالت غيبتك.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved