ومضات من حياة النحاس باشا.. من النشأة إلى القضاء

مدحت نافع
مدحت نافع

آخر تحديث: الإثنين 11 يونيو 2018 - 9:15 م بتوقيت القاهرة

فى ترجمة بليغة رائعة نظم عباس حافظ الكاتب والناقد المسرحى والمناضل السياسى الوفدى أروع السطور فى وصف مصطفى النحاس باشا زعيم الأمة، الذى يعد أحد أبرز القادة السياسيين فى تاريخ مصر الحديث، إن لم يكن أبرزهم على الإطلاق. الترجمة التى جاءت فى نحو 450 صفحة لم تخل من الانحياز الواضح لشخص النحاس باشا، ترفعه إلى مرتبة الصالحين والأولياء وقد كان حيا يرزق عند صدورها، لكنها مع ذلك تعد مرجعا مهما لفهم طبيعة الحقبة الليبرالية التى عاشتها مصر تحت حكم الوفد، وهى بعد نصا أدبيا بديعا امتلك صاحبها ناصية الأدب وحسن البيان. كما أن الترجمة لحياة النحاس سبقتها فصول عن أسرار الزعامة، وخصائصها، وظروف نشأة الزعماء والنابغين والشخصيات المؤثرة ولمحات من صفحات تاريخ كبار القادة والعلماء الذين ألهمت نبوغهم وزعامتهم تصاريف القدر.
يقول المؤلف عن الزعامة فى تصديره للكتاب: «وأعجب ما فى هذه الزعامة التى نحن بسبيل تقديرها أنها بناء شاهق من جلال الخلق، وأن قوة الخلق فى جلالها وطبيعة خواصها كالحرارة والضياء والشمس والهواء، وعناصر الكون والفضاء، والسر فى أنك تحس وجود أحد الناس، ولا تستشعر وجود سواه، كامن فى سر الجاذبية، مبثوث فى طبيعة المغناطيس، والحق هو قمة الحياة، وأسمى ذروة الوجود، والصدق فى القول والإحسان فى العمل هما التطبيق للحق، والمعراج إلى قمته، والإسراء إلى ذروته، وإن الطباع البشرية لتتفاوت فى درجات هذين العنصرين ومبالغهما، فمن خلصت طبيعته وتطهرت فطرته، جرى من منابعه فى أعلى جبال الحق، منصبا فى طباع الناس وفطرهم انصباب إملاء من الآنية العالية إلى الأوعية المنخفضة، ولن يستطيع فى العالم شىء أن يقاوم هذه القوة المكينة فى بناء الرجل العظيم؛ لأنه أبدا القوى الغالب» ما أروع الوصف والتشبيه...

كذلك احتوت الترجمة على أحداث وتفاصيل كاشفة لعناصر قوة المجتمع المصرى مطلع القرن الماضى، واستواء النسق القيمى على أحسن ما تكون الشمائل، ونزول الحاكم والمحكوم على كلمة الحق، وانتصار فضائل العلم ومكارم الأخلاق على مختلف العقبات، وعلى قوى الاحتلال ذاتها فى قمة بطشها!. هذا بعض ما أريد استظهاره فى هذا المقال والذى يليه إن شاء الله، عسى أن نقف على جانب لا يعرفه الكثيرون من حياة أحد زعماء الحركة الوطنية.

***

ولد الزعيم مصطفى النحاس باشا بمدينة سمنود بمحافظة الغربية فى الخامس عشر من شهر يونيو سنة ١٨٧٩، وقبل أن يبلغ العاشرة، ظهرت عليه علامات النبوغ المبكر، وفوجئ من حوله بسرعة استيعابه للعلوم، وعجيب حافظته، التى دل عليها غريب القصص، ومنها ما تواتر على ألسن الناس من حادث التلغراف. حيث شاهد النحاس باشا فى طفولته أحد موظفى مكتب التلغراف وهو يحرك أصابعه على جهاز آلى أمامه، فينقل الجهاز إشارات معينة، فوقف يتأمل هذا العمل بشغف، ثم أخبر الموظف عن رغبته فى مطالعة كشف طويل به حروف الهجاء وقرين كل منها مصطلحات تلغرافية، وكان الرجل صديقا لوالده فحقق رغبته وما كان من الطفل النابه إلا أن حفظ الكشف كله وألقاه على الموظف الذى وقف مذهولا لعلمه أن هذا العمل يحتاج شهورا من الحفظ، وانتشر الخبر بين الناس، وتسامع أصحاب أبيه بما جرى، فأشاروا عليه بأن يدخله إحدى مدارس القاهرة ليتلقى العلم بانتظام، ويبرز ما وهبه الله من ذكاء مميز.

وفى هذا يقول عباس حافظ: «واستشار أهل مودته فيما عسى أن يسلكه بشأنه، وكان فيهم صالح باشا ثابت وعبدالحميد أفندى حافظ وغيرهما؛ فكانت النصيحة أن يدخله فى إحدى مدارس القاهرة، وكأنما أحس القوم يومئذ حيال هذا الغلام الذكى من الحداثة، القوى الذاكرة فى الطفولة، أنهم أمام ظاهرة غير مألوفة، وأن لهذا الغلام شأنا فى غده، وهى النبوءة التى كثيرا ما صحبت طفولة العظماء، واستبقت فى الصغر مصائر النوابغ والمتفوقين. وأدى البحث فى أى المدارس أصلح له إلى اختيار المدرسة الناصرية، وكانت يومئذ أكبرها شأنا، يختلف إليها أبناء اليسار وأولاد أهل الجاه، وكان ناظرها سامى باشا المربى المعروف».
التحق النحاس الصغير بالمدرسة وكان تحديد المستوى يؤهله للصف الثانى لكن اختبار الصف بقى عليه نحو ثلاثة أشهر فذاكر وتفوق على زملائه، وأراد أن يطوى وحده السنة الرابعة لينتقل مباشرة عبر امتحانها إلى المرحلة الثانوية، لكن أمين باشا سامى خشى عليه من هذه الطاقة المتوثبة أن تخبو فأشفق عليه وأشار على والده أن يتمهل فاستجاب الأب وأقنع ولده بالتريث.

واستطرد صاحب الترجمة: «وانتقل مصطفى إلى المدرسة الخديوية (الثانوية)، فأظهر فيها التفوق ذاته، والنبوغ بكل أعراضه ومزاياه، وكان دخوله المدرسة فى قسمها الداخلى «بمصروفات»؛ ولكن أمين باشا سامى الذى أدرك نبوغه وعرف ذكاءه وتبنى مواهبه أراد تشجيعه وجعلَه قدوة حسنة لسواه، فطلب أن يبقى «مجانا» هو ورفيق له يُدعى محمد فهمى ياقوت، فسمح له بذلك»

هنا وقفت عند بعض الملاحظات، فمجانية التعليم كانت مستمرة لما بعد المرحلة الابتدائية فى العهد الملكى، وكان القسم الداخلى فقط للمدرسة الخديوية يتلقى مصروفات، وحتى تلك المصروفات كان يستثنى من سدادها النابغون، ويسعى خلفهم فى ذلك بشوات كبار، ثمنوا التفوق والنبوغ وعكفوا على رعايته...

***

ويتابع عباس حافظ بعد أن أسهب فى وصف خلق النحاس القويم والتزامه طوال المرحلة الثانوية: «وعقب دخوله المدرسة الخديوية شاء اللورد كتشنر أن يأخذ من المدرسة عددا من طلابها لإلحاقهم بالمدرسة الحربية، وكان مصطفى من بينهم؛ ولكنه كان يؤثر مواصلة دراسته والانتقال منها إلى المدرسة العالية، فرفض النقلة إلى المدرسة الحربية، وعند ذلك ظن الموظف الإنكليزى الذى يحاول تنفيذ مشيئة المعتمد البريطانى أنه مستطيع أن يؤثر فى هذا الطالب الذى اجترأ على الرفض، من ناحية ضعيفة، يحسبها مطعنا قابلا للجرح؛ فقال له إن كل تلميذ يتعلم هنا «بالمجان» لا بد من أن يلتحق بالمدرسة الحربية، ولكن مصطفى ــ فى شمم وعزة وشجاعة ــ راح يجيب قائلا: ما طلبت أنا المجانية عن فاقة، ولا سألتها عن عوز؛ ولكن ناظر المدرسة هو الذى شاء ذلك مكافأة للمتقدمين، وجزاء للمتفوقين، فأسقط فى يد المفتش... وظل مصطفى متفوقا على أقرانه حتى أصاب «البكالوريا»، وانتقل إلى مدرسة الحقوق، حيث المضطرب فسيح لبروز النبوغ، والمجال متسع أمام الذكاء الوقَاد، والشخصية القوية من النشأة، فلم يلبث مصطفى أن ظهر بأول مقدمات «الزعامة»، ومطالع قيادة المجاميع، وقد ظل على تفوقه أول فرقته فى جميع سنوات الدراسة، وهو البارز على رأس إخوانه، الظاهر وسط الحلقات، حتى أحرز «الليسانس» وكان أول الناجحين».

***
ثم انتقل عباس حافظ إلى لقطة أخرى تكشف عن ملامح الزعامة فى سلوك النحاس طالب الحقوق المتميز الذى تخرج متفوقا وأبى أن يلتحق كاتبا بالنيابة بخمسة جنيهات وحض زملاءه على هذا، فعلم أولو الأمر وسعوا فى إقناعه بالعمل مقابل عشرة جنيهات (وهى حينئذ مبلغ كبير بالنسبة لحديث التخرج) فامتنع النحاس وأكد أنه لا بديل عن العمل الحر، فما لبث أن اقتحم ميدان المحاماة ولم يكن مضى على نيله شهادة الحقوق غير بضعة أشهر، وكان أول ظهوره فى المنصورة، وهو الشاب الصغير الذى لم يتجاوز الحادية والعشرين من العمر.

تسامع أهل الاختصاص بهذا المحامى البارع النزيه فعرض عليه منصب فى القضاء وهو بعد ابن الرابعة والعشرين، فامتنع متمسكا بعمله الحر، حتى عزه الناس فى الخطاب والتمسوا وساطة أبيه ليرضى، فكان أول محام، أو المحامى الوحيد الذى عِين قاضيا ولم يكن قد مضى على إدراج اسمه فى المحاماة أكثر من ثلاث سنين ! وفى يناير 1904 أراد مدير الإدارة القضائية بالحقانية (عبدالخالق باشا ثروت) اختباره قبل التعيين فالتقاه وأخبره أنه مرشح لعمل فى النيابة أو القضاء، فهب النحاس واقفا وقال: «إننى لم أقبل المجىء هنا إلا بإلحاح شديد، وبعد أن قيل لى إن الاتفاق قد تم على دخول سلك القضاء أما والأمر كما تقول، فإنى أرفض بتاتا الوظيفة التى تعرضونها، وإنى راض كل الرضا بحالتى فى المحاماة، وبالحياة الحرة التى أدعو الله أن يديم علىَّ نعمتها»... هكذا كان حرص الممتحِن وصبره، وهكذا كان بلاء الممتَحن فحاز إعجاب ثروت باشا الذى سارع بإظهار خطاب التعيين ليؤكد له أنه ما كان ليعتلى إلا منصة القضاء.

ولنا لقاء آخر إن شاء الله مع شذرات من ترجمة عباس حافظ للنحاس باشا بعد أن التحق بسلك القضاء، علنا نستقى منها العبر، ونعرف كيف أسس زعماء الحركة الليبرالية فى مصر بنيانا راسخا للقضاء العادل الشامخ الذى عز نظيره بين الأمم.
رئيس مجلس إدارة الشركة القابضة للصناعات المعدنية

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved