غلاسة

نيفين مسعد
نيفين مسعد

آخر تحديث: الخميس 11 يونيو 2020 - 8:30 م بتوقيت القاهرة

اختيار هذا العنوان فيه قدر لا بأس به من المُغامرة لأن كلمة غلاسة المكتوبة فوق اسم صاحبة المقال تعطى انطباعا أول بأن الغلاسة صفة لها! لكن ما العمل والعنوان هو الأصدق تعبيرا عن روح قصة نوال مع الكمساري؟.
***
راحت نوال تنقل قدميها متململة فى انتظار الأوتوبيس، الجو متقلب لا يثبت على حال، واليوم حرارته مرتفعة بشكل كبير، ومع أنها فى العادة من محبى فصل الصيف لأن برد الشتاء قارص (بالصاد) للفقراء، إلا أن حر هذا العام يكتم الأنفاس ويشوى الجلود. المروحة الورقية لا تفعل شيئا ولعلها حتى تلفح وجه أسامة بدفقة تلو أخرى من الهواء الساخن.. أسامة هو مفاجأة آخر العمر ومكافأته، ساح تبرمها مع الذكرى الحبيبة. كان قد انقطع رجاؤها فى الأمومة ورضت بقسمتها ونصيبها، رضت بضرّتها وسمعت من كلامها ما تكره وأكثر، ثم وعلى غير انتظار تحرك فى أحشائها أسامة. نذرت لله أن تسميه يحيى تيمنا بقصة سيدنا زكريا وقد وهن العظم منها، لكن زوجها أراده أسامة ولم تجادله كثيرا، يحيى أو أسامة الأمر سيان.. كلاهما سيناديها ماما وهذا هو المهم. تعلق أسامة بجلبابها وقد دخل فى نوبة سعال حادة، خطف قلبها ووجدت نفسها تسعل معه، ربتته برفق وسكبت عليه حنانا من ثلاث كلمات: الرجالة لازم تستحمل، انتهر الصغير وصلب طوله. امتد الانتظار والأوتوبيس اللعين لا يأتى، لولا مشوار طبيبه فى السيدة زينب ما خرجت به، لم يعد الشارع آمنا.. لم يعد آمنا أبدا وهى تخاف على أسامة من كل شيء: الناس والسيارات والكلاب والقطط والحر، لكنها تخاف عليه أكثر من دور الأنفلونزا خصوصا فى هذه الأيام... مممم... هذه الأيام، انقضّت نوال على هواجسها الشريرة وكنستها من رأسها كنسا واستعاذت بالله من الشيطان الرچيم.
***
انصهرت وابنها فى الأوتوبيس وصار الكل فى واحد على قول توفيق الحكيم فى رواية عودة الروح، لكنها عوّلت على أن يُفرِغ الأوتوبيس حمولته فى المحطة التالية مع نهاية الخط. ورق.. ورق.. ورق، سمعت نداء الكمسارى ولم تعره التفاتا، يكفيها جدا أن تقطع تذكرة حين يتحرك الأوتوبيس فى الاتجاه الآخر. اقترب منها الكمسارى وبصوت أجش كرر النداء: ورق يا حاجة، ردت: حادفع المحطة الجاية، ما ينفعش، دى محطة واحدة، ما ينفعش، الله يرضى عليك، ما ينفعش. بدا الكمسارى وكأنه مُبرمج على رد واحد: ما ينفعش.. ما ينفعش.. ماينفعش. ماذا تمثل تذكرتها بالنسبة له؟ لا شيء، لكنها تعرف جيدا هذه النوعية من الرجال من ذوى العداء الفطرى تجاه النساء، يتصورون أنهن يغتصبن أماكنهم ويأخذن فرصهم ويزاحمونهم فى الطريق، أتراه لا يرى أن معها أسامة؟ بل يراه.. صحيح أن أسامة أصغر من أن يدانى الكمسارى لكنه أطول من ألا يُرى. الأرجح أيضا أن الكمسارى لديه مشاكل بالكوم وأن الغلاسة التى يمارسها على خلق الله ليست إلا تعبيرا عن غضب داخلى، هل يدعوها ذلك إلى أن تشفق عليه؟ لا لم تشفق عليه أبدا بل نفخت وحسبنت ثم دست يدها فى صدرها مكرهة وألقت فى وجهه ثمن التذكرة. ظل الرجل واقفا أمامها كالمسمار لا يكاد يسمح بمرور نسمة هواء إلى رئتيها، قال: فين تذكرة الولد؟ عيل صغير، ما ينفعش، دى محطة واحدة، ما ينفعش، الله يرضى عليك، ما ينفعش. ارتفع منسوب غضبها وتعالى دعاؤها على أولئك الناس الذين يستهينون بثمن تذكرتين بالنسبة لأمثالها. لم يناصرها أحد مع أنها متأكدة من أنها تنطق بلسان أكثر من راكب، الكل يريد أن يفرغ شحنة انفعاله فى الكل، أحست بسائل دافئ يتسلل بين أصابع قدميها، بادلها أسامة نظرة اعتادت عليها فى مثل هذه الحالات، لم يكن ينقصها إلا هذا.
***
توقف الأوتوبيس عند نهاية الخط فاقتنصت نوال وابنها أول مقعدين خاليين وتركَت له كما يحب المقعد المجاور للنافذة، كانت قد قررَت أن تعاقبه على فعلته لكن مرضه شفع له، لا بل حبه كان شفيعه. مسحَت رأسه وافتكَت خصلة من شعره الأسود كانت قد التصقت بجبينه فوجدت حرارته أزيد من المعتاد درجة واحدة.. يدها مقياسها، مالت عليه وناولَته محمولها فخطفه وتهلل. هذه المساحة ذات المقعدين هى كل حيّز وجودها، وسواء داخل الأوتوبيس أو خارجه فإنها لا تشعر بالاحتياج لأكثر منها، فهى كافية جدا لحضن. إنها تحب هذا المخلوق الصغير كما هو، تحبه بزنّه وتعبه ودلعه ومرضه المتكرر وطلباته التى لا تنتهى، تحبه وتحب كل من يحبه، حتى زوجها أحبته لأنه أعطاها هذه العطية وكانت قبل مولده على وشك طلب الطلاق.. يا نن العين يا سمسم.
***
ورق.. ورق.. ورق.. اقترب منها الفحيح ولعل صاحبه بدأ بها قبل باقى الركاب، الأرجح أنه لم يغفر لها أنها دعت عليه، ألا ليت دعاءها يُستجاب. ناولته فى قرف أربعة جنيهات من عرق جبينها، لم ينصرف، سألها باستفزاز: فين تذكرة الولد؟ لا لا لا كله إلا هذا، لم تستوعب أنه يريدها أن تقطع تذكرة أخرى لطفل فى الرابعة من عمره. تكرر المشهد السابق بحذافيره لا شيء زاد فيه ولا نقص. تشبث الكمسارى برأيه وراحت هى تستعطفه دون جدوى، فكرَت للحظة أن تنزل ثم تراجعَت لألف سبب. تفرسَت فى وجه الرجل بغيظ وقهر وغضب ومشاعر أخرى كثيرة لم تميزها.. وجهَت له الكلام وضغطَت على كل حرف فى جملتها المذهلة: تصدق إنك ساعة تفريق الغلاسة طِمِعت فيها كلها!! بهت الرجل وقهقه الجميع فما ظن الناس أن يوجد على كوكب الأرض من يقوم بتفريق الغلاسة ولا استوعبوا أن يكون هناك من يطمع فيها !!

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved