العجينة التى أفسدها المجتمع!

محمود عبد الشكور
محمود عبد الشكور

آخر تحديث: السبت 11 يونيو 2022 - 9:05 م بتوقيت القاهرة

تحقق رواية «خبز على طاولة الخال ميلاد»، الفائزة بجائزة البوكر العربية 2022 لمؤلفها الكاتب الليبى محمد النعاس، نجاحها الفنى فى أكثر من اتجاه، فهى ترسم أولا وببراعة نموذجا إنسانيا متفردا، ثم تنطلق منه إلى طرح أسئلة مهمة، سواء عن علاقة الفرد بالمجتمع، أو حول مفاهيم عتيقة عن الرجال والنساء، أو عن هذه الظروف التى تعيد تشكيل حياتنا، مثلما يشكل الخباز ألوانا لا تُحصى من الخبز.
نجاح النعاس بالأساس فى إيجاد هذا المعادل الفنى اللامع لفكرة يمكن أن تكون موضوعا لدراسة اجتماعية ونفسية جادة، ونجاحه أيضا فى هذه التفاصيل التى صاغت لوحته المؤثرة، وجعلت من بطله الخباز ميلاد مختار الأسطى، عنوانا على قضايا كثيرة شائكة، نهرب من مواجهتها مثلما كان يفعل.
تتمتع الرواية أيضا بمستوياتٍ مختلفة من الدلالات، فيمكن أن تُقرأ باعتبارها نظرة انتقادية لمفهوم الرجولة فى المجتمعات العربية، وربما الشرقية عموما، ويمكن أن نراها كدراسة نفسية لغير المتكيفين مع ظروفهم وأحوالهم، يحاولون أن يكونوا أنفسهم فلا يستطيعون، ويمكن أن نلمس فيها صراعا بين روح القرية والريف وربما البداوة، وبين مظاهر الحداثة، التى غيرت الشكل والصورة، ولكنها لم تستطع أن تنفذ إلى الجوهر، وهو أيضا صراع مستمر، وله تجليات كثيرة فى المجتمعات الشرقية.
أصبحت حالة ميلاد الخباز الفردية، ذات دلالة عامة بل وإنسانية، وهنا معنى الفن: أن تخلص لشخصيتك، وأن تعرفها، وأن تعبر عنها بقوة، فتصبح نموذجا أدبيا، يحمل من المعانى أكثر مما أردت أو أحببت.
تختبر الرواية مفهوم الرجولة فى مجتمع ميلاد، الطفل الذى تربى وسط أخواته البنات وأمه، فصار يُوصف بالميوعة، مع أنه لا يعانى خللا هرمونيا، ولا اضطرابا فى هويته الجنسية، أى أن الرواية تفرق بوضوح بين الذكورة، وهو مفهوم بيولوجى موروث، وبين الرجولة، وهو مفهوم اجتماعى مكتسب، الرجولة ببساطة هى تلك الطريقة التى تفهم بها المجتمعات كيفية ممارسة الذكورة، وحدود سلطاتها.
من هذه الزاوية، فإن الذكر ميلاد يجب وفق المجتمع أن يكون رجلا على طريقة مجتمعه، الذى يحكمه الرجل الأوحد (فى زمن العقيد القائد)، المجتمع الذى تدفقت عليه عائدات النفط، فانتقل إلى حداثة ظاهرية، دون أن تتركه سمات البداوة وأمثالها وحكمها، والتى يبدأ بها كل فصل، وقد اختيرت بعناية لتكشف عن نظرة سلطوية للرجل، وتحقير واستخفاف بالمرأة، وهى أمثلة لها نظائر فى كل المجتمعات العربية.
الآن على ميلاد، الذى لا يستمتع ولا يتحقق إلا بتحويل العجين إلى خبز، والذى انتقل من القرية إلى المدينة، أن يكون رجلا وفق كتالوج الأب، ووفق كتالوج معسكر الجيش الذى يجند فيه، ووفق كتالوج ابن عمه المنفلت، الذى يستمتع بالنساء كالجوارى، والذى يبذر الشك فى عقل ميلاد، تجاه زوجته زينب، لأنها تقابل مديرها، خارج ساعات العمل.
هنا يتشكل صراع فذ على أكثر من مستوى: ذكر كامل يمتلك روح ومهارة الأنثى، يُراد له أن يكون رجلا كما يريده الآخرون، وخباز يشكل العجين، بفعل الحب والإرادة الكاملة، بينما يجد نفسه مفعولا به، وفى صراع متواصل بين أدوار مفروضة عليه، باسم الرجولة.
فى المخبز ومحل البيتزا يشكِل العجينة، وينقش توقيعه على الخبز، وفى حياته العملية يعاد خبزه وعجنه فى كل محطة، سواء من خلال الأب، أو من خلال الأم والأخوات، أو عبر مدرب الجيش الشرس، الذى يحمل لقبا عجيبا نسويا هو «المادونا»، أو من خلال انقلاب الأدوار مع زوجته زينب، حيث يجلس فى البيت، يؤدى أدوار المرأة من خبز وطبخ وتنظيف، بينما تعمل هى وتنفق على الأسرة، كما أن رجولته يخدشها عدم إنجاب طفل من زوجته، فكأنها ذاتٌ عالقة فى رجولة تحت الاختبار، ومسكونة دائما بالكوابيس.
يقود البناء كله إلى الانفجار الأخير، الذى لم يكن يعبِر فى جوهره إلا عن ترجمة معنى الرجولة كما فُرض على ميلاد، فيمارس انتقامه بالخيانة، وبالقتل، بذبح حبه، ويذبح القطة أيضا، ثم يصنع رغيفه الأخير فى سعادة.
تعاد تشكيل عجينة ميلاد بلا رحمة من خلال مجتمع تحكمه التناقضات، بينما يحلم هو أنه يشكل عجينته طوال الوقت، تقودنا مهزلة الابن الوحيد مصبوغ الأصابع بالحناء، إلى تراجيديا التخلص من الضغوط بالانفجار فى كل الاتجاهات، وستكون الصبغة هذه المرة بلون الدم.
تصميم فنى مدهش يجعل المرأة وأسماءها حاضرة فى كل مكان، فيرد الرجل بالقهر، حتى الخميرة لها أسماء نسائية: خدوجة وفالنتينا، الأماكن التى تخبز فيها شخصية ميلاد محدودة، ولكن الانتقالات بينها بارعة وذكية، والتقاطع بين تشكيل عجائن الدقيق، وتشكيل شخصية ميلاد ممتاز وموفق، الخبز نفسه يعبِر عن أحواله، وينطق بلسانه، ويترجم أحلامه المجهضة، فى الحب، وفى أن يكون نفسه.
ينطلق ميلاد ليحكى ويتأرجح الزمن، حاضرا وماضيا، فى كل فصل، دون أن تكف الحكاية عن التقدم إلى المصير المحتوم، يصبح الخباز مخبوزا، بعد طول عذاب يبن القرية والمدينة، بين عشقه لزينب، وتحققه وسيطرته وتعليمه للمدام، بين سطوة الأب والعم، وفوضوية ابن العم، بين حرية الجسد، وواجب الزواج تجاه من افتض عذريتها، بين ذكورة بيولوجية، ودفء إناث البيت، ورقة الطبع، وعشق عباد الشمس.
سيكون الحل دوما فى الهروب، حتى من المعسكر، وعبر محاولات الانتحار، ولكن يرفضه الموت، ولا يقتنع المجتمع بذكورته، يريده رجلا وفق مفاهيمه المتوارثة، يريده بطلا لفيلم، يمتثل فيه للحكم والأمثال البائسة، مشكلة ميلاد أنه خاف من الغرق، فغرق.
أسئلة هذه الرواية كانت أصعب من أن يحلها ذلك الحالم بأن يكون نفسه، بأن يبتكر خبزه الخاص، وينضجه على نار ذاته الهادئة. مثل نورس حالم يسقط متعبا، تاركا خلفه عجائن كثيرة ملتوتة، بلا خميرة، لا تصنع خبزا من مقادير منضبطة، ولا تنتج بشرا أسوياء.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved