أى دولة نريد فى الحرب مع الإرهاب؟

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: السبت 11 يوليه 2015 - 10:50 ص بتوقيت القاهرة

فى الحرب الضارية مع الإرهاب قد تفلت أعصاب بغير مقتضى وتصدر قوانين بغير ترو.

بصراحة كاملة ليس هناك تفسير مقنع واحد لكل هذه العشوائية فى صياغة قانون مكافحة الإرهاب.

إذا كان هناك من يرى أن المخاطر المحدقة تستدعى إجراءات استثنائية فإن الدستور ينظم مثل هذه الإجراءات.

الخروج عن الدستور هو خروج عن الشرعية وتمكين للإرهاب أن يضرب فى مفاصل الدولة.

الهدف الرئيسى للإرهاب هو النيل من تماسك الدولة ومنع تعافيها على أى مستوى اقتصادى وأمنى.

بمعنى آخر فهو يطلب أن تكون الدولة فاشلة ومؤسساتها متصدعة حتى تتسع فرصه للانقضاض النهائى عليها.

موضوع الحرب إذن: الدولة وطبيعتها ومستقبلها.

بقدر نجاح أية دولة تخوض هذا النوع من الحروب فى سد الثغرات السياسية والاجتماعية وبناء نموذج يلهم التضحيات فإنها مرشحة أن تحسمها بأقل كلفة ممكنة.

الدول تتأكد قوتها بقدرتها على صياغة أوسع اصطفاف وطنى فى لحظات الخطر.

أسوأ ما ترتب على طرح مشروع قانون مكافحة الإرهاب بلا حوار كاف وإجراءات دستورية صحيحة أن الشقاق حل بدل الاصطفاف.

الذين ناهضوا بعض بنوده من المجلس الأعلى للقضاء إلى المجلس القومى لحقوق الإنسان والنقابات المهنية وفى صدارتها نقابة الصحفيين لا يمكن النيل من اعتبارهم وهم أول من تصدروا الدعوة لإعلان الاصطفاف الوطنى بعد اغتيال النائب العام وما جرى من مواجهات خطيرة فى «الشيخ زويد».

الاصطفاف غير التحريض على الحريات والحقوق الدستورية والدعوات الملتاثة لإلغاء الانتخابات البرلمانية باسم مكافحة الإرهاب.

قوة البلد فى تنوعه وقيمة الاصطفاف فى قدرته على بناء التوافقات العامة.

مثل هذه الحروب تكسب فى قوة الضمير العام قبل قبضة الأمن.

بقدر ما تكون الرؤى واضحة فإن الاصطفاف الوطنى ممكن.

أكثر الأسئلة جوهرية الآن: أى دولة نريد.. وأى دولة تقدر على دحر الإرهاب؟

هناك إجابة «يناير» و«يونيو» أن تكون دولة ديمقراطية مدنية حديثة.. وهناك إجابة أخرى تناهض الثورة والدستور وتعمل على استعادة الماضى وترميم نظامه.

الإجابة الأولى مكلفة لكننا نستطيع أن نمضى فى طريقها بثقة أكبر فى النفس والمستقبل.

الإجابة الثانية مدمرة للدولة نفسها، فهى مشروع اضطراب واسع لا يحتمله البلد فى لحظة مصيرية من تاريخه.

أين نقف بالضبط بين الإجابتين، أولاهما تتوارى والأخرى تسفر عن وجهها.

هذه مسئولية رؤية ودور نظام لم يعلن عن نفسه حتى الآن ولا حسم خياراته الأخيرة ولا أعلن عن رجاله.

ومسئولية القوى والجماعات السياسية التى شاركت فى ثورتين قبل أن تنكفئ على جراحها.

لا توجد ثورة يتواصل زخمها بلا توقف.

لكل ثورة لحظات تقدم وصعود ولحظات انحسار وتصدع.

أخطر ما جرى أن الكتل الجماهيرية غابت تماما عن المشهد والمواجهة انحصرت بين إرهاب يتوعد ودولة تتحفز.

فقدت «يونيو» أفضل ما فيها، فقوتها فى زخمها، دون أن تحقق أوضح أهدافها فى بناء دولة مدنية ديمقراطية حديثة على ما دعت تظاهراتها.

غياب المواطن العادى، الإنسان البسيط، هو أسوأ نتيجة ممكنة لثورة راهنت عليه قبل غيره.

هو الذى تمرد وخرج إلى الميادين والشوارع والأزقة وأبدى استعدادا للمواجهة ودفع الأثمان.

هو الذى طلب إعادة بناء الدولة من جديد بما يحمى كرامته الإنسانية وحقوقه فى العدل الاجتماعى والحريات العامة.

غير أنه لم يحصد شيئا مما راهن عليه وتآكلت بأسرع من أى توقع «قوة يونيو» كما اختطفت «أحلام يناير».

أية استراتيجية جدية لمواجهة الإرهاب لابد أن تستعيد ما وفرته «يونيو» من زخم الإرادة العامة وما صنعته «يناير» من أحلام دفع المصريون فواتيرها غاليا.

يستحيل أن يكون هناك اصطفاف وطنى بغير أرض صلبة يقف عليها وأهداف يتطلع إليها.

إذا كان هناك من يتصور أن تضييق المجال العام يوسع قدرة المجتمع على مواجهة الإرهاب فهو يحلق فى أوهامه.

وإذا كان هناك من يعتقد أن حرية الصحافة تصب فى صالح الإرهاب فهو لا يعرف شيئا عن العدو الذى يحاربه ويجهل الدور الوطنى للصحافة المصرية.

هناك باليقين أخطاء فادحة ترتكبها الصحافة، وهذا من طبيعة المهنة ـ أية مهنة، غير أن التحريض عليها ورفع السيوف فوق رقبتها يعنى بالضبط إخلاء الميدان كاملا أمام وكالات الأنباء والفضائيات والصحف الإقليمية والدولية أن تتحدث وتروى بينما تغيب أية مصداقية عن الصوت المصرى.

بمعنى مباشر الاصطفاف قضية اقتناع والعويل مشروع إفلاس.

صحيح أن رفع السلاح فى وجه المجتمع عرقل كل تطلع إلى تأسيس دولة مدنية حديثة ونال من فرص التحول إلى مجتمع ديمقراطى حر.

غير أن ذلك لا يبرر وحده فداحة التراجع عن جوهر ما تبنته «يناير» و«يونيو».

غابت الرؤى السياسية وضاقت الحياة العامة وتبدت أشباح الماضى.

كانت هذه مأساة كاملة، فالثورة، أية ثورة، عمل سياسى، و«يونيو» نفسها لم يكن ممكنا أن تحسم معركتها ما لم تكن قد استندت على رؤى وبنى سياسية.

فى المواجهات الطويلة التى مهدت للتغيير الكبير فى (٣٠) يونيو بدت «جبهة الإنقاذ» مظلة واسعة وقفت تحتها قوى وتيارات عديدة.

نشأت «الإنقاذ» تحت الضغط السياسى العام، بدت استجابة سريعة لتحدى وجودى بعد الإعلان الدستورى الديكتاتورى فى نوفمبر (٢٠١٢)، ولولا دورها ما كان ممكنا أن تحدث «يونيو» ولا أن يتدخل الجيش لحسم سؤال السلطة فى (٣) يوليو انحيازا لإرادة شعبية مؤكدة.

كان مثيرا أن «الجبهة» تفككت فى لحظة الصعود الكبير، تقوضت تماما باستهتار مثير للتساؤلات.

لم يحدث فى تاريخ أية ثورة أن الجبهات التى دعت إليها وعبأت تحت راياتها حيوية مجتمعاتها قررت حل نفسها ما أن صعدت إلى السلطة.

آلت إلى «الإنقاذ» بعد (٣٠) يونيو رئاسة الحكومة وتولى منسقها العام منصب نائب رئيس الجمهورية للعلاقات الدولية وسيطرت الشخصيات القريبة منها على لجنة الخمسين المخولة بوضع الدستور.

مع ذلك لم تحدث أية اتصالات ولا جرت أية اجتماعات لتنسيق المواقف وصنع التوافقات العامة.

تصورت أطراف فى «الجبهة» أن تفكيكها يفسح المجال أمامها لتصدر المشهد منفردة، وهذا لم يحدث.

وتصورت أطراف ثانية أن «الجبهة» انتهى دورها مع خروج الجماعة من السلطة، وكانت الحسابات خاطئة.

وتصورت أطراف ثالثة بين جماعات الشباب الغاضب أن التخلص من الجبهة عمل ثورى يقلص من أدوار شخصيات يناصبونها الخصومة، وكانت النتيجة اختطافا ثانيا للثورة.

بصورة أو أخرى فإن القوى السياسية التى شاركت فى ثورتين أخطأت بقسوة فى لحظة حرجة وبعض الأسباب بدت عفوية وساذجة وبعضها الآخر مقصودة ومتعمدة.

تراجع كل ما هو سياسى رغم أن «يونيو» كانت عملا سياسيا، واستبعد كل ما هو شعبى رغم أنها كانت عملا شعبيا.

بقدر ما نتحدث بشجاعة ونعترف بأخطائنا فإنه يمكن دحر الإرهاب بقوة الضمير العام لا بالأحاديث المنفلتة ضد كل قيمة ديمقراطية.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved