تفاصيل ليست كالتفاصيل

نيفين مسعد
نيفين مسعد

آخر تحديث: الخميس 11 يوليه 2019 - 8:40 م بتوقيت القاهرة

يوجد نفر من الناس تستهويهم التفاصيل، يحبون التدقيق في درجات الألوان ويهتمون بملامح الوجوه ولا يأخذون عدّ النجوم على محمل الاستهزاء. يقولون عن هذا النوع من البشر إنهم أحيانا ما ينشغلون بأشجار الغابة وينسون الغابة نفسها، وهو قول ينطوي على ترتيب غير متفَق عليه لأهمية الأشياء لأنه يفترض أن الغابة أهم من أشجارها، فهل توجد غابة بدون أشجار؟ لا توجد، الأشجار هي التي توفّر الظل وتُلّون المنظر وتجذب الحيوان والطير، الأشجار تصنع الحياة. متعِبة إلى حد ما هواية الانشغال بالتفاصيل لأنها تحتاج إلى التحلّي بالصبر والفضول وتحتاج أيضا إلى روح المغامرة، فالبحث عن تفاصيل الظواهر قد يؤدي لاكتساب معلومة أو تحقيق متعة وقد لا يضيف شيئا على الإطلاق، ومُحّب التفاصيل ينبغي أن يهيئ نفسه لكلتا النتيجتين: أن يكتشف جديدا وألا يكتشف جديدا. لكن لماذا هذه المقدمة؟ إليكم التفاصيل.
***
تقام حاليا، على ملاعب "نادي عموم إنجلترا"All England Club ، بطولة ويمبلدون للتنس وهي كما نعلم بطولة التنس الأكثر شهرة على مستوى العالم. ولقد شاءت الظروف أن أشاهد لقطة عابرة من إحدى مباريات الدور الثالث بين اللاعبَين الإسباني رافائيل نادال المصنّف رقم ٢ على المستوى العالمي والفرنسي جوتسونجا الذي تراجع ترتيبه العالمي إلى المركز رقم ٧٢ بعد ابتعاده عن الملاعب لعدة شهور بسبب إصابته. هذه اللقطة العابرة كان لها فعل المغناطيس، فإذا بها تشدّني وتدهشني وتقعدني لمشاهدة المباراة حتي نهايتها، وأنا أمنّي نفسي بأنه ربما أتحفنا اللاعب الإسباني أو منافسه الفرنسي بلقطة مدهشة بالقدر نفسه. كان اللاعبان قد أنهيا من فورهما الشوط الثالث من المجموعة الثانية، وبدأت فترة استراحة قصيرة لأقل من دقيقتين. تناول نادال منشفة ليجفف بها عرقه كالمعتاد، فإذا بخيط رفيع جدا وواه جدا وقصير جدا يخرج من نسيج المنشفة، فماذا فعل؟ نزع نادال الخيط الذي لا يكاد يُرَى بالعين المجردة ورفعه في الهواء ثم نادى الفتى الذي يقوم بجمع الكرات من الملعب وسلّمه الخيط الرفيع !
***
في تغطية الحدث الرياضي المهم كانت هناك غابة كثيفة من كاميرات الڤيديو والتصوير، للمرة الثانية يظهر اسم الغابة في المقال فهل تلعب الكاميرات دور الأشجار التي تنشر البهجة وتبرز الجَمال؟ سوف نرى. في العادة تخلو فترات الاستراحة من أحداث "مهمة" تلفت الانتباه فهي فرصة للاسترخاء والتقاط الأنفاس لا أكثر. لكن هذا لا يمنع من أنه قد يوجد في الزاوية من يتربص بها، يرصد حركات اللاعبَين وسكناتهما، يطارد التفاصيل الدقيقة ويقتنص الفرصة إن سنحت. هكذا التقطَت كاميرا أحد المصورين عبقرية لقطة الخيط وركّزت عدسته علي عملية التسليم والتسلم فجعلت منّا جميعا شهودا عليها. هرول الفتى فور أن ناداه نادال، عقد حاجبيه بكل اهتمام وهو يتناول منه الخيط، فالموقف فعلا يستحق درجة عالية من التركيز، ومضى بعدها إلى حال سبيله لا نعلم أين تخلص من الخيط المشكلة !
***
يا الله! خيط واه كما هو خيط العنكبوت لكن الأثر الذي تركه كان حادا كشفرة، فنحن أمام لاعب تعامل مع هذا الخيط الرفيع كما لو كان دخيلا على المشهد والدخلاء لا يُرّحب بهم. حب للمهنة يلامس حد التقديس حتي ليُخشى على هيبتها من خيط نافر من خيوط المنشفة، واحترام للعبة يتجاوز في صرامته كل اللوائح المكتوبة فمن ذا الذي يخطر على باله أن يتحسب لموقف ينفر فيه خيط من خيوط المنشفة فلا ينفع ولا يضر؟ بعض التفاصيل تكمن فيها الشياطين ربما لكن بعضها الآخر تسكن فيه الملائكة. يقولون إنه من داخل أكثر المواقف جدية أحيانا ترتسم ابتسامة، وهكذا فبعد أن استوعبتُ الملابسات المدهشة التي أحاطت بالخيط إياه تساءلتُ في نفسي: ترى ماذا كان نادال بفاعل إذا ما ابتُلي بمنشفة مصنوعة من صوف الأنجوراه؟ وصوف الأنجوراه هذا هو نوع كارثي من الصوف تتطاير خيوطه في الهواء بلا عدد كما تطير أسراب الفراشات المهاجرة إلى حيث الدفء والضوء، تتعلق خيوط الأنجوراه بالأجسام والملابس والأثاث، لا يفلت منها شيء ولا ترحم أحدا. لحسن الحظ لن يواجه نادال هكذا موقف فالصوف لا يصلح للتجفيف ولا تُصنَع منه المناشف.
***
لو أن هناك جائزة لأفضل تفاصيل لاقترحت أن يفوز بها مناصفةً اللاعب الإسباني والمصور الذي لا أعرف هويته، فهما معا صنعا مشهدا فيه الكثير من الرقي والجمال والاحترام والإبهار والمتعة، والقوس مفتوح لإضافة صفات أخرى. هل هذا كله لأن بطلا في التنس نحّي خيط المنشفة الذي تمرد على نسيجها؟ لا بل لأن بطل التنس على هذا النحو الخاص جدا مع خيط يسئ في تقديره لهيبة المشهد العام .

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved