يا شعوب العالم الثالث صحصحوا لديون الكورونا ومطابع الدولار واليورو!

محمود الخفيف
محمود الخفيف

آخر تحديث: السبت 11 يوليه 2020 - 9:10 م بتوقيت القاهرة

كما أشرت فى مقال سابق، من المتوقع أن تكون الأضرار الاقتصادية فى البلدان النامية نتيجة الإجراءات التى اتُخذت للسيطرة على فيروس الكورونا فادحة وتتجاوز أضعاف أضعاف الأضرار المباشرة للفيروس، وذلك لأنها أزمة غير مسبوقة على مر التاريخ والأهم لأن السياسات الليبرالية الجديدة المتوحشة سوف تواصل تسيير اقتصاد العالم على نفس المنوال بدون أى ضابط أو جامح حكومى، تلك السياسات التى تزيد من الهوة بين الأغنياء والفقراء، ولا تواجه أى سبب يمنعها من مواصلة إفقار شعوب العالم الثالث بنقل ثروات وخيرات هذه الشعوب إلى الدول الغربية الغنية والمسيطرة على مقدرات العالم.
فبعد أكثر من أربعة أشهر (ثلث سنة كاملة والإغلاق لم ينته بعد) ما زال الشق الأعظم من اقتصاد العالم والتجارة الدولية فى حالة شبه شلل، وما زالت الطاقة الإنتاجية الزراعية والصناعية والخدمية على مستوى العالم شبه معطلة. وتشير التقديرات إلى أن ما يقرب من 2.7 مليار عامل، نحو 80 ٪ من القوى العاملة فى العالم، قد تقلصت دخولهم بسبب الركود الاقتصادى الناجم عن فيروس الكورونا، وبالطبع الخسارة أفدح فى البلدان النامية ذات الدخل المتوسط وتحت المتوسط. وكذلك تشير التقديرات إلى أن نحو 1.6 مليار إنسان، نحو 20% من سكان العالم، ممن يعملون فى الاقتصاد غير الرسمى أو بأجر يومى، هم وعائلاتهم الأكثر تضررا من إجراءات إغلاق الكورونا.
***
وتعانى كل دول العالم النامى، وبالطبع مصر من ضمنها، من ركود اقتصادى وتراجع فى الإنتاج وتزايد البطالة والفقر، وكل ذلك يؤدى إلى تناقص الإيرادات العامة فى ذات الوقت الذى تزداد فيه الحاجة للإنفاق العام لتلبية المتطلبات التى تفرضها مواجهة فيروس الكورونا، وبطبيعة الحال هذا يزيد من عجز ميزانية الدولة، الذى هو فى الأصل كبير. وكل هذا يدفع مصر ومعظم دول العالم النامى إلى مزيد من الاقتراض وتراكم الديون.
ومن جهة أخرى تتناقص الإيرادات من العملات الصعبة ويتزايد العجز فى ميزان المدفوعات وبالأخص للبلدان التى تطبق وصفة صندوق النقد الدولى وتعتمد أساسا على النشاطات الريعية كمصدر للنقد الأجنبى. ففى حالة مصر هناك تراجع شديد فى إيرادات السياحة وعائدات قناة السويس وتحويلات العاملين فى الخارج والصادرات من البترول والغاز وكذلك تراجع الصادرات من باقى السلع والخدمات، هذا بالإضافة إلى تراجع الدولارات من الاستثمار الأجنبى المباشر وتزايد هروب دولارات استثمارات الحافظة (الأموال الساخنة) التى كانت تُستثمر فى ديون الحكومة الدولارية. كل هذا يدفع مصر وباقى الدول النامية لمزيد من الاقتراض ومزيد من الديون بالعملة الصعبة من الدول الغربية وصندوق النقد الدولى والبنك الدولى لسد عجز ميزان المدفوعات وتفادى انهيار الجنيه والعملات الوطنية الأخرى.
وهنا مكمن خطر أكيد على شعوب العالم الثالث وذلك بزيادة تبعيتها وارتهان مستقبلها بإغراقها فى المزيد من الديون تنوء أجيال المستقبل عن سدادها، وتزداد الخطورة إذا كان البلد فى الأصل مثقلا بالديون، ففى مصر كان الدين دولاريا فقط (وليس كل الدين العام) فى آخر ديسمبر 2019 يقرب من 113 مليار دولار بما يمثل 30% من حجم الاقتصاد المصرى.
ولأن صندوق النقد حبيب الغلابة ولا يتوانى عن المساعدة الخالصة للمحتاجين، فقد قرر توفير قروض للعالم النامى لمواجهة فيروس الكورونا، تزيد من مديونية شعوب هذا العالم بتريليون دولار كاملة، وكان نصيب مصر من هذه التريليون 8 مليار دولار، 2.8 مليار تم الاتفاق عليهم فى شهر مايو الماضى و5.2 مليار فى شهر يونيو (بينما فى فترة ثلاث سنوات 2016ــ2019 اقترضت مصر من الصندوق 12.4 مليار دولار). وبالطبع على كل من يتعامل مع الصندوق أن يتبع إرشاداته التى توصى بتقشف مالى بالضغط على الفقراء وبسياسة نقدية متشددة تبتعد عن طباعة العملة الوطنية إلا فى حدود ضيقة.
***
ولكن المثير للدهشة والتعجب والإحساس بالفاجعة، أن مصدرا ومحفزا أساسيا لهذه الديون الجديدة والمتراكمة، والتى تثقل بها شعوب العالم الثالث، هو الطباعة المستمرة للدولار واليورو والجنيه الإسترلينى منذ أكثر من عقد من الزمن! وهذا لا يكلف الدول الدائنة أكثر من ثمن الورق الذى تطبع عليه هذه العملات، فى حين أن هذه الديون تكلف الدول النامية المدينة أموالا حقيقية من إنتاج سلع ومنتجات حقيقة لتغطية سداد أقساط وفوائد هذه الديون، ولكن المصيبة لا تتوقف هنا بل يستخدم جزء ليس بالقليل من هذه الديون لاستيراد بلدان العالم الثالث لمنتجات الدول الدائنة لتعود أموال الديون مرة أخرى إلى تلك الدول.
وتتم عملية طباعة النقود هذه عن طريق سياسة «التيسير الكمى» (Quantitative easingــQE) النقدية التى اتبعتها وتتبعها الولايات المتحدة وأوروبا منذ أزمة 2008ــ2009 المالية. وتنفذ هذه السياسة البنوك المركزية للولايات المتحدة وأوروبا الغربية وذلك بطباعة الدولار واليورو والجنيه الإسترلينى وضخ هذه النقود الطازجة فى اقتصادات هذه الدول (ومنها إلى باقى أنحاء العالم)، وتتم عملية الضخ عن طريق استخدام البنوك المركزية للنقود الطازجة لشراء السندات الحكومية لهذه الدول من القطاع الخاص وكذلك شراء ديون البنوك والشركات العملاقة الآيلة للسقوط، أى أن البنوك المركزية تأخذ من القطاع الخاص سندات دين الحكومة (وهى مجرد أوراق) مقابل النقود المطبوعة حديثا.
ففى الفترة من 2009 وحتى أزمة الكورونا طَبعت وضَخت (ومنها إلى باقى أصقاع العالم) البنوك المركزية للولايات المتحدة ومنطقة اليورو والمملكة المتحدة (التى كان لا يغيب عنها الشمس) سيولة نقدية تقدر بنحو 11.3 تريليون دولار بدون أى تكلفة إلا ثمن الورق وحبر المطبعة، ثم طبعوا وضخوا 3 تريلون دولار بعد الكورونا (من مارس حتى الآن)؛ توزيع هذه الطباعة والضخ كالاتى: الولايات المتحدة 7.2 تريليون دولار قبل و2 تريليون دولار بعد الكورونا، والبنك المركزى الأوروبى 3.2 تريليون يورو (نحو 3.5 تريليون دولار) قبل و750 مليار يورو (850 مليار دولار) بعد الكورونا، ثم المملكة المتحدة طَبعت وضَخت سيولة بالإسترلينى قيمتها 630 مليار دولار قبل و250 مليار دولار بعد الكورونا.
والغرض من سياسة التيسير الكمى (QE)، التى تضخ كل هذه الأموال، هو تحفيز اقتصادات الدولة صاحبة العملة، جزء من هذا التحفيز يأتى بزيادة الطلب الخارجى، عن طريق زيادة واردات واستهلاك العالم الثالث، لمنتجات الدول صاحبة العملة. حيث يمكن تحفيز العالم الثالث على الاستيراد من خلال إتاحة السيولة الزائدة له، وذلك بتشجيع دول العالم الثالث على زيادة ديونها بقروض رخيصة وذات سعر فائدة منخفض نسبيا، وفى نفس الوقت المصارف التمويلية التى تحصلت على السيولة المخلقة حديثا، بما فى ذلك صندوق النقد والبنك الدوليين، تعمل على تشجيع، بل على دفع، دول العالم الثالث على الاقتراض والغوص أكثر فى مستنقع الرمال المتحركة للديون.
***
يعنى ببساطة يا شعوب العالم الثالث صحصحوا لأن هذه الديون لا تكلف الغرب إلا ثمن الطباعة وإصدار النقد، فى حين أن تكلفتها لكم باهظة تدفعونها وتسددون أقساطها وفوائدها بإنتاج وجهد ومواد خام وموارد طبيعة وثروات حقيقية، تكلفة قد يصعب على أولادكم وأجيالكم القادمة تحملها.
وبعد كل هذه الديون وبعد المزيد من تكبيل شعوب العالم الثالث بالتبعية بكل أشكالها، هل ممكن العودة إلى «العمل كالمعتاد» (Business as usual)، وماذا سيكون شكل وحال «الوضع الطبيعى الجديد» (The new normal)، هل سنعود إلى المستقبل حيث الانتداب والحماية والاحتلال والاستعمار بأشكال جديدة؟ أم ستنتصر إرادة الخير التى ستنبع من شعوب عالمنا الذى سُمى بالثالث.

هذا المقال يعكس رؤية الكاتب وليس بالضرورة رؤية المنظمة التى يعمل بها.

اقتصادى بالأمم المتحدة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved