معضلة التعامل مع رموز العنصرية والإمبريالية

إبراهيم عوض
إبراهيم عوض

آخر تحديث: السبت 11 يوليه 2020 - 9:00 م بتوقيت القاهرة

مقتل المواطن الأمريكي الأسود جورج فلويد مخنوقاً في مدينة مينابولس في الغرب الأوسط للولايات المتحدة يوم 25 مايو الماضي تحت اليد الضاغطة على رقبته لشرطي أبيض لم يكن الأول من نوعه. ولكنه في هذه المرة أثار موجات من الاحتجاجات الهائلة في أغلب قارات العالم وفي بلاد عديدة منه امتدت حتى شهر يوليو الجاري. ليس الغرض من هذا المقال وقد انقضت سبعة أسابيع على الجريمة البحث في الأسباب المباشرة لانفجار الاحتجاجات في هذه المرة بالذات، وإنما هو مناقشة القضية التي أثارتها هذه الاحتجاجات وكانت موضوعاً لها. هذه القضية، وهي ليست جديدة، هي التعامل مع رموز العنصرية، والإمبريالية، ومعهما العنف الذي تمارسه الشرطة في علاقاتها بالمواطنين في بلدان عديدة، وثلاثتها مرتبطة ببعضها البعض.
الإحصائيات تبيّن أنه فيما بين 2013 و2019، أي في غضون ست سنوات فقط قتلت الشرطة الأمريكية 42 مواطناً أسود من بين كل مليون مواطن أمريكي أي أنها قتلت ما يقرب من أربعة عشر ألف مواطناً أمريكياً أسود، بعضهم صبية، بما يقارب الـ 2,200 سنوياً، الكثيرون جداً منهم بغير أي مخالفة اقترفوها. النسبة بين من قتلتهم الشرطة الأمريكية بين السود ثلاثة أميالها بين البيض. ولمن يمكن أن يدعي أن هذا يرجع إلى أن السود أكثر عدوانية فالردّ هو أن العبرة ليست باللون وإنما بالظروف الاقتصادية والاجتماعية لمن يمكن أن يخرج على القانون. إن كانت الظروف الاقتصادية والاجتماعية هي نفسها، فإنك ستجد أن معدل الخروج على القانون هو ذاته وبالتالي فإن ارتفاع نسبة ضحايا الشرطة من السود لا يمكن أن يفسّر إلا بالعنصرية.
غير أن المشاركين في الاحتجاجات في الولايات المتحدة من السود والبيض أرادوا الرجوع إلى الجذور المريضة التي نشأت عنها العنصرية واجتثاث من زرعها من التاريخ الأمريكي. لم يكن صعباً تشخيص مرض هذه الجذور على أنه نظام العبودية. ليس هذا المكان لاستعراض تاريخ العبودية ومكافحتها في الولايات المتحدة ولكن في كلمات قليلة نشير إلى أنه امتد العمل به لما يربو على قرنين من الزمان ما بين نهايات القرن السادس عشر وبدايات التاسع عشر، وهو ألغي قانوناً في الستينيات من القرن التاسع عشر ولكنه استمر عملياً في الجنوب الأمريكي بمقتضى نظام مقنن للتمييز العنصري. لمّا نشطت حركة الحقوق المدنية في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين ألغيت قوانين التمييز العنصري، ولكن أعراضه باقية في المجتمع منها العنف والقتل الذين تمارسهما الشرطة في حق المواطنين السود.
***
المحتجون أرادوا اجتثاث ذكرى من رعوا العبودية وتشبثوا بها وحاربوا دفاعاً عنها. توماس جفرسون، واحد من "الآباء المؤسسين" وصائغ إعلان الاستقلال والرئيس الثالث للولايات المتحدة، دعا المحتجون إلى إسقاط تمثاله وإلى التخلص من الصرح الواقف لتكريم ذكراه في واشنطن لأنه كان يملك العبيد وعاشر واحدة منهم، سالي همنجز، وأنجب منها في الخفاء ستة أبناء وبنات على الأقل عتَقهم وحدَهم من بين عبيده عند مماته وباع الآخرين لتسديد ديونه. وودرو ويلسون، الرئيس الأمريكي صاحب النقاط الأربع عشرة، الداعي إلى حق الشعوب في تقرير مصيرها، دعا المحتجون إلى الكشف عن عنصريته المعروفة وعن نفاقه، ولنا في مصر شاهد عليه، فهو لم يؤيد مطالب ثورة سنة 1919 بالمشاركة في مؤتمر فرساي وبالاستقلال وأيد موقف بريطانيا منهما. الاستنتاج هو أن ويلسون كان يقصد الشعوب البيضاء وحدها بنقاطه وبدعوته إلى تقرير المصير. قادة الجنوب المتمسك بالعبودية في الحرب الأهلية الأمريكية في الستينيات الأولى من القرن التاسع عشر، مثل الجنرال روبرت لي دعا المحتجون إلى إسقاط تماثيلهم وكل مظاهر تكريمهم كما طالبوا بإنزال كل أعلام الكونفدرالية الجنوبية التي ما زالت مرفوعة وإلى محو صورتها من على آخر أعلام ولايات الجنوب التي توجد عليها وهو ما فعلته فعلاً ولاية مسيسيبي يوم 30 يونيو الماضي.
المطالبة بالتخلص من رموز العبودية عبرت المحيط الأطلنطي وفي بريطانيا أسقط في بريستول ولندن تمثالا إدوارد كولستون وروبرت ميليجان، من كبار تجار العبيد في القرن السابع عشر. في التاريخ القديم كانت العبودية معروفة. في روما القديمة كان العبيد بيضاً من "السلاف" في شرق أوروبا ومن هنا جاءت أشكال كلمة "العبد" باللغات الأوروبية. وكانت بين الأفارقة عبودية كما عرفها العالم الإسلامي، ولعل أشهر العبيد البيض فيه وأكثر الأمثلة عليهم عجباً هم المماليك ذوي الأصول التركية والشركسية الذين أتى بهم الأيوبيون إلى مصر وبلاد الشام ليدافعوا عنها فانتهوا إلى إزاحتهم وإلى حكمها لثلاثة قرون فضلاً عما يقرب من ثلاثة قرون أخرى استمروا في ممارسة السلطة الفعلية خلالها. الأوروبيون، وأولهم البرتغاليون، ومن بعدهم الهولنديون والبريطانيون والفرنسيون، غيروا من طبيعة العبودية. هم استعبدوا الأفارقة وجعلوهم عنصراً من عناصر الإنتاج في الرأسمالية الناشئة اعتباراً من القرن السابع عشر وجزءاً من نظام تجاري ثلاثي الأضلاع هو الأصل في نزح الموارد من العالم الذي صار متخلفاً في الجنوب إلى ذلك الذي زاد تقدماً على تقدم وثراءً على ثراء في الشمال. أمثال كولستون وميليجان كانوا يصدرون السلاح ومعه المنسوجات ومنتجات أخرى إلى غرب إفريقيا ووسطها، أغروا بها أصحاب السلطة فيهما، وفي المقابل يحصّلون بشراً يرسلونهم سلعاً إلى القارة الأمريكية وجزر الكاريبي المكتشفة حديثاً ليزرعوا القطن وقصب السكر والبن ويحصدوهم، ثم يغلق المثلث بتصدير هذه المحاصيل إلى بريطانيا وغيرها من الدول الأوروبية التي بنت إمبراطورياتها على أساسه. كولستون وميليجان هما رمزان لنظام العبودية الذي أنتج خليلة جفرسون وامتدت آثاره العنصرية حتى جورج فلويد.
***
غير أن المطالب لم تتوقف عند تجار العبيد، بل هي وصلت إلى رموز الإمبراطوريات التي نشأت على أساس التجارة فيهم. في مدينة أوكسفورد تظاهر الطلاب مطالبين بإسقاط تمثال سيسيل رودس، كبير أباطرة التعدين في جنوب إفريقيا الداعي إلى حكم الأقلية البيضاء فيها وإلى استئثارها بالأراضي الشاسعة وبالثروات فيها، وبمحو كل أشكال تكريمه في جامعة المدينة العريقة التي كان قد أوصى لها بجانب معتبر من تركته. وبالمناسبة، مازال في مدينتنا الثانية، الإسكندرية، فندق يحمل اسم هذا الإمبريالي العتيد! وامتد الهجوم على رموز الاستعمار والإمبريالية فوصل إلى ونستون تشرتشل، وهو في التاريخ البريطاني عنوان مقاومة النازي والانتصار عليه في الحرب العالمية الثانية، حتى أن الحكومة، ورئيسها من المغرمين بتشرتشل، أقامت دفاعات حول تمثاله في لندن.
أما في فرنسا، فلقد أشعلت الاحتجاجات على مقتل فلويد من جديد الغضب على مقتل شاب إفريقي في سنة 2016 على يد الشرطة، وهو غضب أدى إلى تلطيخ تمثال جان باتيست كولبير، الوزير الشهير للويس الرابع عشر لدى نهاية القرن السابع عشر الذي أصدر "قانون السود" وقنن به العبودية. في الاحتجاجات الفرنسية ربط واضح بين العنصرية والعبودية، والإمبريالية، وممارسات الشرطة الرامية إلى الإبقاء على النظام الاقتصادي والاجتماعي الموروث عنها. تجدر الإشارة إلى أن مقتل فلويد والاحتجاجات عليه أثار مناقشات واسعة النطاق لممارسات الشرطة في بلدان عديدة، في البرازيل وجمهورية الدومينيكان في أمريكا اللاتينية والكاريبي مثلاً، حيث تختلط هذه الممارسات بالعنصرية ضد السود وبالتمييز ضد الفقراء. وامتدت المناقشات إلى إفريقيا نفسها، حيث رأى واحد من المحللين في كينيا أن ممارسات الشرطة فيها امتداد للعصر الاستعماري فهي تستند إلى قوانينه التي كانت تحمي المستوطنين البيض من أصحاب المزارع فصارت بعد الاستقلال تحمي من حكموا من أبناء البلد واختصوا أنفسهم بالجانب الأكبر من ثرواتها.
***
الاحتجاجات كانت أوسع وهي طالت بلداناً أخرى ولكننا نكتفي بما سبق استعراضه منها. المنطق الذي استندت إليه الاحتجاجات والمطالبات قوي ولكننا مع ذلك ننتقل إلى مناقشته.
أقصى اليمين الذي لا يخفي عنصريته وكذلك اليمين المحافظ في الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا يرفضان أي مساس برموز التاريخ الرسمي لبلدانهم فهم تعلموا تبجيلهم وهذه الرموز هي الأساسات التي تنبني عليها خطاباتهم الثقافية والسياسية، وهي خطابات تشكل بدورها الأساس لشرعية نظمهم السياسية ولما يتصورونه شرعية تصرفاتهم في العالم في القرون الأخيرة. ليست هذه هي الأفكار التي نستند إليها في مناقشة المنطق القوي لمطالب الحركات الاحتجاجية.
عند سؤال مارفن ريز، العمدة العمالي لمدينة بريستول منذ سنة 2016 ، وهو أول عمدة أسود لمدينة أوروبية، لماذا لم ينزع تمثال كولستون من مكانه قبل الآن، ردّ قائلاً أن هناك أولويات وأن رأس المال السياسي محدود بطبيعته يجب إنفاقه بكفاءة وفاعلية. هذا الرأي يشاركه فيه تقدميون كثيرون سود وبيض. هم يقدّمون كأولوية معالجة المظاهر الملموسة للتمييز وعدم المساواة التي يعاني منها السود، ونضيف إليهم البشر البين بين لوناً وكذلك ديناً من المهاجرين وسلالاتهم من العالم العربي، ومن أمريكا اللاتينية، ومن شبه القارة الهندية، وغيرها. الفقر، وانخفاض المستوى التعليمي، والبطالة، والمهن الأقل مهارة، والانخفاض النسبي في الأجور، والعمل في الاقتصاد غير المنظم، والسكن في أحياء ذات بنى أساسية معتلة قليلة الخدمات، كلها مظاهر ذات جذور تاريخية للتمييز وعدم المساواة. هذه المظاهر لا بدّ أن تكون لها الأولية في العلاج. فضلاً عن ذلك، فالآخذون بهذه المقاربة يعلنون عن حرصهم على ألا يصدموا من البيض من قد يتعاطف الكثيرون منهم معهم ولكن قد يصدمهم التهجم على رموز شكلت إدراكهم للحياة وللعالم. نضيف إلى ذلك أنه إذا اختفت كل رموز المروجين للعبودية والإمبريالية، فربما اختفت معها نفس ذكرى العبودية والإمبريالية، وهما جريمتان ضد الإنسانية لا ينبغي محوهما من الذاكرة حتى لا يتكررا بأي شكل جديد في المستقبل.
المظاهر الاقتصادية والاجتماعية للعنصرية والإمبريالية يجب علاجها بكل السياسات العامة الضرورية لذلك. ولكن للرموز، سواء كانت بشراً أو معاني، أهميتها فهي التي تشكل الوعي ونعطي للاستغلال منطقاً وتبرره. السكوت على الرموز غير ممكن ولكن التعامل معها لا بدّ أن يتسم بحسن السياسة من أجل الحاضر والمستقبل.
التعامل مع رموز العنصرية والإمبريالية يهمنا في بلادنا لأننا من ضحايا هاتين الآفتين.

أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved