صمت الهدوء

خولة مطر
خولة مطر

آخر تحديث: الأحد 11 يوليه 2021 - 7:40 م بتوقيت القاهرة

هناك ألوان من الهدوء، فمن قال إن الهدوء واحد؟ فرغم أن الجميع عندما يحاول أن يبتعد يقول «أنا بحاجة لبعض الهدوء»، إلا أن بعضنا يجرى لأقرب شركة سفريات ويبحث عن بقعة تبعده، فيبتعد بعض الشيء أو يغتسل من تراكم الآلام والزعل أو ربما فقط تعب الأيام. وأخريات وآخرون لهم فى بلادهم مساحات من الجبال والبلدات الصغيرة أو «الضيعة» القديمة، فهناك يسيرون بين الشجر ليعيشوا الهدوء. أخريات وآخرون البحر ملاذهم يساكنون الموجة التى تغازل الشاطئ رغم زحمة البشر وتراكم الأجساد بلا تلاصقها وهى تتعمد بشمس الصيف الحارقة التى لا تطفئها إلا غطسة فى ماء البحر المالح.
•••
هناك هدوء ما بعد القصف أو توقف إطلاق النار، هذا الآخر هدوء سماه زياد الرحبانى فى مسرحيته الرائعة «هدوء نسبى» لأن الشعب اللبنانى حينها كان يبحث عن هدوء ما بين طلقة وقذيفة، فكان إن انخفض التصعيد كان الهدوء نسبيا فخرج الناس من المخابئ وراحوا ينجزون ما يقدرون عليه قبل أن ينتهى الهدوء وتعود للحظة ضجيجها القاتل.
•••
هى تقول بحثت عن فراشى أو عدت له والنهار لا يزال ظهرا والشمس حارقة فى الخارج والصيف هذا العام شديد الحرارة والرطوبة. ذهبت لفراشى بحثًا عن شيء من الهدوء رغم أن أصوات العربات فى الشارع المجاور والجيران بنبرات صوتهم العالية وبائع الخردة فى الشارع، رغم أن كل ذلك يبقى يطاردنى حتى فى فراشى، تلك المساحة الضيقة التى تبقى خاصة جدا لى.. لى وحدى أنا ولا أحد غيري! الهدوء بالنسبة لهذه الصديقة هو أن تجد شبرا خاصا فى كيلومترات من العالم، فقد تمت استباحة كل الأرض والبحر، أما السماء فهى مشاع لهم يطاردونا بأقمارهم التى أفسدت تلك اللوحة المطرزة بنجوم أصبحت شيئا من الماضى البعيد ومادة للشعراء القدامى.
•••
هناك هدوء تام أو هو صمت الهدوء وهو نادر جدا أو ربما هو ما يبحث عنه الكثيرون والكثيرات رغم أنه قد يكون بداخل كل إنسان، أو ربما هو الهدوء الذى يخلقه هو وحده ولا يعرفه أحد ويمضى سنين عمره يبحث عنه فيما هو الأقرب له بل هو يسكنه.
•••
تغير مفهوم الهدوء مع ازدياد حدة الضجيج حتى أصبح له درجات مختلفة كما هى مقاييس الضجيج. ألا يجب أن يكون هناك مقياس للهدوء أيضا حتى يكون هناك تعريف أكثر دقة ووضوحا ولا تختلط الأمور، فينتهى البحث عنه إلى العدم أو القول إن الهدوء فى القبر كما كان يقول أهلنا إن «الراحة فى القبر»! وإن من يبحث عنه كذلك يقضى عمره يجرى خلف وهم اسمه السعادة وراحة البال.
•••
هدوء البحر عند البعض ضجيج، وهدوء الغابة عند البعض الآخر مخيف أو قاتل، وهدوءها يختلف عن هدوئه هو عندما يقول لها تعالى لنرحل صوب الهدوء هناك وما هناك سوى كثير من الأصوات المتلاطمة أقوى من تلاطم موج ذاك الشاطئ بل كل الشواطئ. بعضهم لديه عداء تاريخى مع الهدوء لأنه لا يعرفه أو لأن بعضهم قال له إنه يشبه تلك اللحظة التى يسقطونك فى شبر حفرة. الخوف يبقى حاجزا بين من يعرف ومن يجهل. بين من جرب ولم يجرب. بين من صادق وعاشر الشيء وآخر لم يقترب منه حتى. بين من ولف الهدوء حتى صادقه وتلاصق معه ومن يبقى فى دائرة تجميل حديثه بالتغزل به بين رشفة من فنجان قهوة وأخرى.
•••
بعضهم يقول إنه يبحث عن هدوء البال أو راحته والبعض الآخر يقول إن لديه هدوءا مع نفسه وهناك هدوء حذر وهدوء ما قبل العاصفة وهدوء ما بعدها أيضا. بعضهم هدوءه يشبه البرود أو الفتور وهو كذلك فى هدوء الأماكن فليست كلها هادئة بجمال بل أحيانا هادئة بلا لون ولا طعم. نعم، للهدوء ألوان ومذاقات مختلفة وأحيانا أصوات. ألا يقول الشاعر «عجبا أيها الليل.. يقولون عنك هادئ وفيك تصرخ كل القلوب».
فى الهدوء مساحة لبعض الصوت.. بعض الضوء وبعض الفرح.. للهدوء تنهيداته ومداعباته وكثير من صمته.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved