يهزلون فى موضع الجد

فهمي هويدي
فهمي هويدي

آخر تحديث: الثلاثاء 11 أغسطس 2009 - 9:05 م بتوقيت القاهرة

 مؤتمر حركة فتح الذى انعقد فى بيت لحم يثير من علامات الدهشة والإحباط أكثر مما يثير من أسباب الثقة والتفاؤل، ذلك أنه من عجائب عالم السياسة أن تعقد حركة تحرير مؤتمرها تحت مظلة الاحتلال، وبموافقة العدو، بل وتذهب إلى أبعد فتنتخب مجلسا «ثوريا» وتتحدث فى بيانها عن حق الشعب الفلسطينى فى مقاومة الاحتلال بكل الأشكال.

وهو كلام كبير، إذا أخذ على محمل الجد فإنه يعنى إطلاق شرارة المقاومة فور انتهاء جلسات المؤتمر، خصوصا أن الظرف مهيأ تماما لذلك.

فلا المفاوضات أوصلت إلى شىء. ولا الاستيطان توقف. ثم إن عملية تهويد القدس مستمرة يوما بعد يوم، أما الحكومة الإسرائيلية الراهنة فقد أغلقت الأبواب أمام أى احتمال للتفاهم حول أى عنوان من عناوين القضية، وتلك ملابسات توفر للمجلس «الثورى» فرصة نموذجية لكى يؤدى واجبه ويثبت جديته وشرعيته، لأنه إذا تشكل ثم سكت فمن حق أى مواطن أن يسأل: إذا لم يثر أعضاؤه فى هكذا ظروف، فمتى يثورون إذن؟

لست أبالغ. فمثل هذه التوقعات تعد ترجمة عادية جدا للكلام الذى صدر عن المؤتمر، يخطر على بال المرء إذا أحسن الظن به، وتصور أنه يعنى حقا ما يقول، لكن هذا الأمل لا يلبث أن يتراجع حين يفتح المرء عينيه على حقيقة الرعاية الإسرائيلية للمؤتمر، والجهد الحثيث الذى تبذله أجهزه السلطة «الوطنية» لملاحقة المقاومين واعتقالهم وتعذيبهم.

إضافة إلى التنسيق الأمنى مع الإسرائيليين، لإحكام عملية الملاحقة والاعتقال، فضلا عن إجهاض أى عمليات فدائية وهو ما يدعونا إلى القول بأن حكاية مقاومة الاحتلال بكل الأشكال كانت تعبيرا إنشائيا وليست موقفا حقيقيا، وأن المجلس الثورى لا يراد له أن يفعل أكثر مما يفعله مجلس الأمومة والطفولة فى مصر!

من العجائب أيضا أن يعقد مؤتمر حركة فتح لأول مرة منذ عشرين عاما، دون أن تعرض عليها أية وثائق أو تقارير عن الأنشطة المختلفة خلال الفترة السابقة. وهذا تقليد معمول به فى جميع التنظيمات السياسية والمؤسسات الأهلية، من الأحزاب السياسية إلى التعاونيات والاتحادات الطلابية، وقد قرأت أن خمسة أو ستة تقارير أعدت بالفعل، ولكنها استبعدت جميعا.

واعتبرت كلمة رئيس السلطة فى افتتاح المؤتمر هى الوثيقة التى يتعين على المشاركين أن يهتدوا بها فى مناقشاتهم وتحديد مواقفهم. وهو ما ذكرنا بالتقليد المتبع فى أنظمتنا الذى بمقتضاه يتحول كلام أى رئيس إلى خطاب تاريخى وخطة عمل، وفى غيبة تقرير سياسى حقيقى يقدم إلى المؤتمر، فإن اللقاء فقد عموده الفقرى، وتحول مؤتمر الحركة إلى شىء أقرب إلى مجرد كلمة موسمية.

من العجائب كذلك أن الأعضاء الذين حضروا مؤتمر الحركة، جرى حشد أعداد كبيرة منهم بواسطة الأجهزة الأمنية، التى تخيرت أناسا بذاتهم للوصول إلى نتائج محددة سلفا، فى مسلك هو صورة طبق الأصل لمؤتمرات الاتحاد الاشتراكى فى مصر ومؤتمرات اللجان الثورية فى ليبيا، وفيما علمت فإن لجنة تحضيرية للمؤتمر تشكلت فى عمان، كان يفترض أن تتولى مسائل العضوية والتقارير التى ستعرض على «كوادر» الحركة.

ولكن السيد أبومازن ألغى اللجنة بعدما بدأت أعمالها بالعاصمة الأردنية، واستبدلها باجتماع عقد برئاسته فى رام الله لطبخ مسألة العضوية وفتح الباب لتحضيرها. وكانت النتيجة أن المؤتمر الذى كان يفترض أن يشارك فيه ما بين 1200 و1600 عضو، حضره أكثر من 2250 عضوا، لم يعرف أحد من أين جاءوا ولا من الذى رشحهم للعضوية، وإزاء ذلك لم يكن مستغربا أن ترتفع أصوات شككت فى هوية إعداد كبيرة من الحاضرين، كما شككت فى دوافع اختيارهم.

العجيبة الرابعة أن المؤتمر الذى يفترض أن يضم كوادر فتح، كان طول الوقت تحت مراقبة صارمة من الأجهزة الأمنية، التى لم تتردد فى قمع أى عضو يشك فى تجاوبه مع المخطط المرسوم، وكلمة قمع هذه لا مبالغة فيها لأن الأخبار تحدثت عن قيام عناصر الأجهزة البوليسية بالاعتداء بالضرب على شخصيات مهمة محسوبة على خط أبومازن. ومن هؤلاء اللواء توفيق الطيراوى رئيس المخابرات السابق والعميد أبوحسن الشيوخى (75 سنة) والعميد ماجد حيمور الذى قدم من الأردن، وقد نقل الثلاثة إلى المستشفى لتلقى العلاج من آثار الضرب المبرح، الذى ما كان يخطر على بال أحد.

فى ظل استمرار هذا الوضع أخشى أن يعانى الفلسطينيون مما عانيناه فى أغلب الأقطار العربية، حين ذهب الاستعمار الأجنبى وحلت محله نخبة «وطنية» كانت أسوأ منه، مما جعل كثيرين يتحسرون على زمن الاحتلال. وها هى سلطة رام الله التى مازالت تتمسح فى التحرر الوطنى، تبشرنا بما تمارسه من قمع وتدليس بأنها بصدد تكرار السيناريو البائس الذى خبرناه. إن أحلامنا لم تعد تؤجل فحسب، وإنما أصبحت تجهض واحدا تلو الآخر.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved