مقاومة الإحباط

عماد عبداللطيف
عماد عبداللطيف

آخر تحديث: الأحد 11 أغسطس 2019 - 11:32 م بتوقيت القاهرة

التقيتُ مؤخرًا مع باحث شاب من أنبغ أبناء جيله فى تخصصه، وأكثرهم إخلاصًا لعمله. حدثنى عن أشكال الهدر والاستنزاف المادى والنفسى والعقلى التى يتعرض لها كل يوم، وعن العوائق التى يضعها أمامه بعض زملائه، وسعيهم إلى التقليل من قيمة عمله. وذكر متألمًا أن زملاءه يحصلون على درجات علمية مرموقة، ومناصب أكاديمية مهمة دون أن يُقدموا للعلم، ولا للجامعة، كثيرًا أو قليلا. واختتم كلامه قائلا: هذا زمن الدجالين، والمنافقين، والمزورين، واللصوص، ولا عزاء للباحثين الجادين فى جامعاتنا.

ذكّرنى حديث زميلى بحوارات مشابهة جرت خلال الشهور الثلاثة الماضية مع زملاء آخرين من عدة دول عربية. وفكرتُ أننا أمام ظاهرة إحباط، تتغلغل رويدًا رويدًا فى بيئاتنا العلمية، وبخاصة بين أجيال شباب الباحثين. وآمل أن يكون هذا المقال مفتتحًا لنقاش مجتمعى حولها. يمكن لهذا النقاش أن يبحث فى أسباب الإحباط الأكاديمى، ومظاهره، وآثاره، وعلاقته بظواهر أخرى مثل تغير قيم المجتمع عمومًا، والتحديات التى يواجهها المجتمع الأكاديمى خصوصًا. لكننى سأركز فى هذا المقال على تقديم خمسة مبادئ ربما تساعد فى مقاومة الإحباط الأكاديمى لدى من يعانون فى مؤسساتهم أو مجتمعهم البحثى المحلى من أشكال الاستنزاف المعنوى والعقلى، بسبب التهميش، وعدم التقدير، وغياب العدل، وسيطرة اللصوص والمدّعين، ومحاربة كل ما هو جاد وأصيل.

المبدأ الأول: الهزيمة لا تأتى إلا من داخلنا
مهما كانت قوة الآخرين، أفرادًا أو مؤسسات، فإنهم لن يتمكنوا من منع باحث أو باحثة من إنجاز بحث علمى أصيل مبدع، إنْ هو ثابر لتحقيق ذلك. وفى الحقيقة، فإن بعض التحديات ــ وبخاصة تحدى عدم تقدير الآخرين لعملنا ــ قد تكون حافزة على الإبداع؛ لأنها تزيد من إصرار المرء على تجويد عمله، وسد ثغراته، واستكمال نقائصه. وتجعله يسعى لتقديم عمله ونشره فى بيئات غير محلية، ومن ثم تُفتح أمام عمله آفاق غير تقليدية.

المبدأ الثانى: العمل هو الحل
هناك عبارات شديدة الإيجاز والتأثير فى إدراك الإنسان لنفسه وعالمه. وبشكل شخصى آمنت منذ زمن بعيد أن العمل الدءوب المتواصل هو الرد الوحيد على كل سخافات الحياة. ولو أن هناك حلا واحدًا يصلح لكل المشكلات التى يعانيها الباحثون فى مجتمعاتنا فإن هذا الحل سيكون: العمل الدءوب. إننى أؤمن أن العمل نوع من العلاج الروحى، وبخاصة فى مجتمعات الزيف والقهر، التى تشوه النفوس السوية، وتخلق عالمًا مريضًا. فحين ننغمس فى العمل نصنع ستارًا عازلا بيننا وبين العالم المتوحش، نحمى عقولنا وأرواحنا بتوجيهها نحو ما نعمل، فنجوده، ونبدع فيه. العمل هو الرد الوحيد على تشوهات العالم، وهو المقاومة الوحيدة لجميع أشكال الاستنزاف، ومصدر الفرح والبهجة فى زمن الانكسارات.

المبدأ الثالث: استغن عمن سواك
يعلمنا التاريخ حقيقة ساطعة سطوع الشمس: الفساد هو الوجه الآخر للاستبداد. فالاستبداد يحتاج إلى ذمم خربة لتقوم دعائمه، فإن لم يجدها جاهزة، صَنَعها. وليس أكثر خطورة من فساد مؤسسات العلم؛ حين يتبوأ الجاهل واللص والمنافق مكان العالم المبدع النزيه؛ بسبب الواسطة، أو المحسوبية، أو الرشوة، أو الموالاة. وحين يتكاثر هؤلاء، ويقفزون على كل منصب، وكل مكان، يشعر المجتهدون بالإحباط الأكاديمى، فيتخلون عن مثابرتهم، ويتوقفون فى منتصف الطريق، أو يختارون اللحاق بركب الفائزين، فيتخلون عن مبادئهم، وأخلاقهم. والاختياران كلاهما يبوء بخسران مبين. والحل الوحيد لمواجهة واقع غلبة الفاسدين هو أن يستغنى الإنسان عمن سواه، ألا يريد شيئًا من أحد، ولا يمد بصره أكثر مما يقدمه له عمله. فى زمن الفساد، ليس هناك عاصم إلا الاستغناء. بالطبع فإن هذا الاستغناء لا يطال فحسب التطلع إلى المناصب، بل يتجاوز ذلك إلى الاستغناء عما يعتقد الباحث المجتهد أنه حق من حقوقه، مثل الحصول على دعم لبحثه، أو مكافأة لعمل من أعماله، أو جائزة هو جدير بها. فمعظم هذه الأشياء تذهب إلى أهل الثقة والموالاة عادة، وعلى الباحث الذى يرغب فى أن يحتفظ لنفسه بكرامتها ونزاهتها أن يطوع نفسه على الزهد فيها، وأن يكون رده على فقدها مزيدًا من العمل الدءوب.

المبدأ الرابع: اصنع لنفسك فضاءات بديلة
يقولون إن زامر الحى لا يُطرب. وفى مجتمعات النفاق والوصولية نادرًا ما يحظى باحث نزيه بتقدير مجتمعه المحلى إلا بعد زمن طويل. فمجتمعات الباحثين هى فى النهاية مجتمعات بشرية تنتشر فيها آفات التحاسد، والتباغض، والحقد. وفى المجتمعات التى لا تجعل من العمل معيار التفاضل بين الناس، نادرًا ما يُترك المجتهدون دون عرقلة أو تشويه. وقد أهدى طه حسين أحد كتبه «إلى الذين لا يعملون، ويؤذى نفوسهم أن يعمل الآخرون». وهو إهداء ذو مغزى فى وصف شريحة ضخمة من الباحثين فى زمننا الراهن. ولكى يتجنب الباحث مخاطر عداء (الذين لا يعملون) يحتاج إلى عدم التعويل على بيئته المحلية، بأن يفتح لنفسه آفاق انتشار غير تقليدية، ويقيم علاقات تواصل علمى مع باحثين فى بلدان أخرى، وأن يكتب بلغة واحدة على الأقل غير لغته الأساسية، وأن يدخل فى شراكات علميّة خارج محيطه المحلى. كما يحتاج كذلك إلى أن يرتقى بأخلاقه إلى الذروة، فلا يغوص فى قاذورات الغيبة، والنميمة، والمكائد، والعداوة. وأن يُدرك طوال الوقت أن التواضع، ومساندة الناس، وتطييب خواطرهم، والتماس الأعذار لهم، والصفح، والغفران ليست مجرد خصال للخلق الحسن، بل آليات لمقاومة الإحباط قبل كل شيء.

المبدأ الخامس: هذا الوقت سيمضي
سأل ملك الصين رجلا اشتهر بالحكمة: ما العبارة التى إذا قلتُها فى وقت الألم والأحزان، جعلتنى متفائلا سعيدًا، وإن قلتُها فى زمن الفرح والبهجة جعلتنى مكتئبًا حزينًا. أجاب الحكيم: قل: «هذا الوقت سيمضى». ويجدر بكل باحث أن يُدرك أن هذا الوقت سيمضى، وأنه فى نهاية المطاف، لا يصح إلا الصحيح. والصحيح هو الاجتهاد، والنزاهة، والعدل، والإبداع. عسى أن يكون الزمن الآتى زمن عدل، وحرية، وكرامة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved