لن ترسم العبثيات مستقبل العرب

علي محمد فخرو
علي محمد فخرو

آخر تحديث: الخميس 11 سبتمبر 2014 - 7:55 ص بتوقيت القاهرة

عندما كتبت فى الأسبوع الماضى عن نواقص ومطبات ممارسة الديمقراطية فى الغرب لم أقصد، بالطبع، الانضمام إلى جوقة المحذرين، بلؤم وتلفيق وكذب على النفس، من انتقال مجتمعات العرب إلى الديمقراطية لإيمانهم الراسخ الانتهازى بعدم ملاءمة الديمقراطية لمزاج العرب كبشر ولثقافتهم وأوضاعهم الاجتماعية المليئة بالتخلف. وهذا التحذير بالطبع يصب فى خدمة المستبدين والفاسدين.

المطلوب كان هو العكس تماما. المطلوب هو أن تحاول أمة العرب عيش تجربة جديدة مماثلة لما أنجزته منذ خمسة عشر قرنا بالنسبة لحملها مشعل رسالة دينية جديدة تمثلت فى دين الإسلام. لقد كانت هناك ديانات عديدة، وكان بالإمكان تبنى إحداها وبالتالى تجنب الصراعات والعرق والدموع التى تصاحب تبنى الجديد. لكن أمة العرب رأت ما اعتبرته فى زمانها نواقص فى هذا الدين أو ذاك فتطلعت إلى ما اعتقدت أنه سيكون أفضل، فوجدته فى الرسالة السماوية الجديدة المعروضة عليها من قبل رسول نبى جديد. فكان أن حملت تلك المسئولية التاريخية وضحت من أجل ما آمنت بأنه جزء من مسئوليتها تجاه العالم، فكان ذلك التاريخ المبهر لمن كان العالم يومئذ لا يرى فيهم أكثر من بدو جهلة فقراء أجلاف متصارعين.

•••

اليوم، فى ضوء وألق ذلك التاريخ، يحق لنا أن ننظر إلى ديمقراطيات الآخرين بنفس تلك العين الناقدة والروح المتطلعة إلى ما تعتقد أنه سيكون الأفضل. ومن البداية يجب التأكيد بأنه لا فى الماضى كانت التجربة تحقيرا للديانات الأخرى، ولا فى المستقبل ستكون تحقيرا لديمقراطيات الآخرين.

ديمقراطية الآخرين، مثل الديانات الأخرى التى نظر إليها العرب منذ خمسة عشر قرنا، فيها الكثير مما هو حسن ومبهر ومطلوب، لكنها لا يمكن أن تكون نهاية المطاف، فالإنسانية ستبقى إلى نهاية وجود عالمها تتطلع نحو الأسمى والأنقى، تماما مثلما أمرت كل الديانات السماوية وغير السماوية ذلك.

ونحن، إذا ننتقى التمعن فى الديمقراطية (أو الديمقراطيات؟) الغربية فلأنها أفضل الموجود فى عالمنا اليوم. ولكن كونها الأفضل لا يعنى أنها هى الأقصى الممكن وأنها، كما ادعى البعض، هى نهاية التاريخ، أى السقف الأعلى الممكن لمسيرة الديمقراطية.

•••

إذن، ونحن هنا لا نثرثر ولا نضحك على النفس، فمن حق العرب وواجبهم أنهم مثلما انتقلوا من جاهلية الشرك والممارسات الدينية البدائية البليدة إلى ما اعتبروه دينا ملائما لهم وللإنسانية، فإن المطلوب، وهم ينتقلون من استبداد الماضى وممارسات الحكم البدائية البليدة المليئة بالنواقص إلى ما يعتبرونه نظام حكم أفضل وأسمى، فإن المطلوب هو أن يحاولوا القفز فوق ما هو موجود إلى ما هو أحسن مستوى وأفضل تنظيما مما هو موجود.

هل هذا صعب؟، نعم، ولكنه غير مستحيل ويستحق المحاولة على الأقل. تدفعنا إلى ذلك أحداث وممارسات وحقائق كثيرة فى عصرنا الحالى.

فالديمقراطية فى العديد من المجتمعات أضحت ممارستها مثل توالد وتربية الأسماك فى الأحواض المائية الاصطناعية. إنها أسماك بلا طعم منعش ولا مذاق حسن.

والديمقراطية فى واقع ممارساتها الحالية عبر العالم كله يستحوذ عليها، بالسرقة والتشويه والتضليل، كل أنواع القراصنة من سياسيين وأصحاب ثروة وديكتاتوريين متخفين وراء ألف قناع.

وباسم دمقرطة الثقافة هبطت الآداب والفنون وبرامج الإعلام إلى مستويات متدنية فى محتواها وقيمها وعمقها الفكرى وذوقها، لتنتج بدورها أناسا غير صالحين لحمل مسئوليات المجتمع الديمقراطى.

والديمقراطية السياسية أصبحت فى ضعف متزايد فى عالم أضحت فيه الفروقات بين مؤسسات المجتمع المدنى، وعلى الأخص الأحزاب السياسية، فروقات غير فكرية أو مبدأية، وإنما فروقات فى مقدار ونجاعة البهلوانية التى تمارس فى لعبة الوعود والأكاذيب والتلاعب بعواطف الجماهير من أجل استلام الحكم والبقاء فيه.

وبسبب ذلك أصبح النظام الديمقراطى لا يجتذب للعمل فى الحياة السياسية إلا أنواعا من البشر تتصف غالبيتهم بالبذاءة والسلوكيات اللامسئولة، مما أفسح المجال لأن يصبح كل من يملك نفوذا ومؤسسات المال رجل دولة.

•••

كل ذلك أدى إلى خلق بيئة ثقافية اجتماعية تزيد من سقم الديمقراطية، وذلك بعد أن تضاءلت التعددية الفكرية السياسية بين الأحزاب فأسقمت السياسة، وبعد أن تقلصت الطبقة الوسطى فى العدد والمستوى المعيشى والحيوية فأسقمت الاجتماع، وبعد أن أصبح الإعلام حبيس الإعلان وشعبية الثقافة المسطحة وثرثرة المطبلين الانتهازيين فأسقم الرأى العام.

قد يبدو أن الكلام فى موضوع الديمقراطية فى أزمنة التراجع المفجع التى نعيشها هو كلام فى الفاضى، غير أن الحقيقة التى ستدوم هى أن مستقبل الوطن العربى هو أهم وأكبر وأسمى من مماحكات أنظمة التسلط والفساد العابرة ومن عبثيات داعش والنصرة وأخواتهما الطارئة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved