«بريكس» حلم غربى لمستقبل يتحدى الغرب!

مدحت نافع
مدحت نافع

آخر تحديث: الإثنين 11 سبتمبر 2017 - 10:45 م بتوقيت القاهرة

سألنى صديقى الصحفى عن إمكانية انضمام مصر إلى مجموعة «بريكس» فقلت له: علينا أن نسأل «جيم أونيل».. ظن صديقى أننى أعزف عن الإجابة لسبب ما، لكننى لم أعرف إجابة أفضل من تلك. فالشخص المذكور هو اللورد «جيم أونيل» الذى شغل منصب سكرتير الخزانة بالمملكة المتحدة حتى العام الماضى، وكان كبير اقتصاديى «جولدمان ساكس» الذى صك عام 2001 مصطلح دول البريك BRIC فى إشارة إلى الأحرف الأولى لكل من البرازيل وروسيا والهند والصين، وهو حينها حديث عهد بمنصب رفيع فى بنك الاستثمار الشهير وأراد أن يصنع مجدا جديدا ويضع علامة تخصه من دون المحللين. 
لم تكن جنوب إفريقيا قد انضمت بعد إلى تلك المجموعة لتحمل المجموعة اسم «بريكس» BRICS عام 2010. الاختيار الذى ساهم فى جعل تلك المجموعة من الدول محط اهتمام كثير من المستثمرين الراغبين فى تكوين محافظهم من دول نامية واعدة، جاء فى وقت تعرضت له الولايات المتحدة الأمريكية لضربة إرهابية كبيرة هددت عرشها على قمة الاقتصاد العالمى، وأعطت مؤشرا إلى تحولات كبيرة يشهدها العالم فى الأعوام التالية على ذلك الحدث الخطير. الاختيار أيضا جاء ليجمع عدة دول لا تربطها أية اتحادات ولا حدود مشتركة ولا قواسم مشتركة، بخلاف أنها كبيرة الحجم، وتحقق معدلات نمو مرتفعة نسبيا، وتتبنى مفهوما حديثا أكثر انفتاحا على السوق الحرة من مفاهيمها التاريخية. 
توقعات «أونيل» التى اعتمدت على تنبؤات بسيطة «خطية» لمعدلات النمو الراهنة حينها، كانت ترسم لتلك الدول نصيبا كبيرا من الناتج العالمى يتجاوز مجموع اقتصادات الغرب الكبرى بحلول عام 2039. وكذلك تنبأت ببلوغ رأس المال السوقى للشركات المقيدة ببورصات المجموعة نحو 50% من إجمالى رأس المال السوقى بمختلف بورصات العالم بحلول عام 2050 (رأس المال السوقى هو رأس مال الشركات المقيدة بالبورصات مقوما بالأسعار السوقية لأسهمها). فى البداية حصدت تنبؤات «أونيل» الكثير من النقد والسخرية، فالبرازيل كانت تعانى وقت انطلاق هذا المصطلح من تضخم جامح، والاقتصاد الصينى كان الأكبر من بين المجموعة بشكل يوحى بالهيمنة المفرطة، وبعبثية اختيار الحرف الأول من البرازيل ليتصدر اسم المجموعة عوضا عن الحرف الأول للصين. ومن الطريف أن بعض البرازيليين الذين استضافوا «أونيل» للحديث عن المجموعة الجديدة كانوا يهمسون فى أذنه أنه لم يختر البرازيل إلا ليتمكن من صك المصطلح على النحو الذى اشتهر به الآن! والبعض أخبره أن الأوقع أن يكون اسم المجموعة CRIB أو BRIMCK بضم كل من كوريا الجنوبية والمكسيك، وفريق ثالث راح يتهمه بمغازلة دول بعينها حتى يتمكن من فتح أبواب الاستثمار لعملائه فيها بحرية (استثمارات جولدمان ساكس كانت بنسبة 60% فى دول الأمريكتين عند دخول الألفية الجديدة، وبعد ذلك بعقد واحد انخفضت إلى ما دون النصف وإلى أقل من النصف بكثير لو استبعدنا دول أمريكا اللاتينية). بعض منتقدى «أونيل» أشاعوا أنه بصدد تدشين «كتلة الأسمنت»، فى إشارة ساخرة إلى أن «بريك» تتخذ موقفا معاديا لمشروعات الطاقة البديلة. وفى محاولة للرد على بعض تلك الاتهامات الخاصة بعشوائية ولا معنوية اختيار المجموعة، حاول «أونيل» أن يؤكد أن استبعاد كوريا الجنوبية والمكسيك من «بريكس» يرجع إلى تواجدها فى مجموعات أكثر تقدما، كما حاول البحث عن مسمى آخر لاحتواء مجموعة دول أقل نموا أطلق عليها Nــ11 أو الإحدى عشر التالية Next Eleven وكان من بينها مصر وبنجلادش ونيجيريا التى راحت تسوق نفسها ضمن مجموعة «أونيل» الجديدة!
***
المدهش أن توقعات «أونيل» بدأت تتحقق بمعدلات متفاوتة! نصيب مجموعة «بريكس» من الاقتصاد العالمى أخذ يتزايد مع تحسن ملموس فى مؤشراتها المختلفة، نصيبها من رأس المال السوقى ــ مثلا ــ ارتفع من 2% إلى 9% من إجمالى رأس المال السوقى العالمى. لا أحد يعرف على وجه اليقين إن كانت تنبؤات «أونيل» محققة لذاتها وأنها قادت بنوك الاستثمار وكبار المستثمرين باتجاه المجموعة، مما أثر بالإيجاب على الأداء العام لها، أم أن التوقعات كانت دقيقة واستطاعت أن تستشرف المستقبل على نحو واقعى منزه عن الأهواء. لكن المؤكد ان طريقة تسويق «بريكس» كانت ناجحة واجتذبت محافظ بنوك استثمار عالمية.
المجموعة إذن لم تؤسس على التوافق أو التشاور أو تحقيق مصالح مشتركة، ولم يسع أصحابها إلى تدشينها على غرار مجموعة العشرين عام 1999، بل هى أشبه بما أطلق عليه دول النمور الآسيوية فى عقد التسعينيات، لكن الفرق أن النمور كانت تجمعها عناصر كثيرة مشتركة جغرافيا واقتصاديا وسكانيا.. وقد أخذ البعض فى مصر بتلك المجموعة إلى الحد الذى ألهم بعضهم بوصف الاقتصاد المصرى بالنمر الجديد! لكن كلنا يعرف مصير هذا النمر الواعد مع ضياع السيولة فى مشروعات مثل «توشكى» و«شرق التفريعة» وكان الاقتصاد المصرى يلتقط انفاسه بالكاد بعد أن أوشك برنامج الإصلاح الاقتصادى والتكيف الهيكلى أن يؤتى بعض الثمار.
«بريكس» إذن هى مسمى ومصطلح رأى فيه أحد الاقتصاديين البريطانيين فرصة لجمع عدد من الدول ــ التى لم يزر أيا منها قبل ذلك التاريخ (باستثناء الصين) ــ فى حزمة واحدة يمكنه بها تسويق فرص استثمارية بتلك الحزمة، وخلق محافظ أوراق مالية وأصول مختلفة بتلك الدول، التى يسهل تطويع أنظمتها لخدمة تدفقات رءوس الأموال، متى التقت الإرادة السياسية لحكامها مع رغبات المستثمرين فى الشرق والغرب.
اقتصادات ناشئة لا يسيئها الاسم الجديد الذى لا يبرز وضعها النامى الأقل تقدما، وفى ذات الوقت تحدوها العديد من المخاطر السياسية والتشغيلية التى لابد وأن يقابلها عائد مناسب يجتذب صناديق التحوط والمستثمرين الذين يتوقون إلى معدلات مرتفعة من المخاطر.
***
تلك مقدمة لابد منها لفهم ظروف نشأة المجموعة التى ملأت وسائل الإعلام المصرية صخبا خلال الأسبوع الماضى، على خلاف وسائل الإعلام الكبرى فى سائر أنحاء العالم! ظروف النشأة تعكس إلى حد بعيد توافر الإرادة لدى دول «بريكس» على الاتحاد والتحرك وفقا لأجندة مشتركة من عدمه. ظروف النشأة تعكس أيضا مدى رسمية هذا التجمع، والتزامات أعضائه تجاه خطط وطموحات «جيم أونيل» الأب الشرعى للمجموعة.
بقى هنا أن نلفت إلى أن نشأة المجموعة كمصطلح لا يمنع من تحولها إلى شكل أكثر تنظيما، وأن قدرة زعاماتها على الاجتماع لبحث الموضوعات ذات الاهتمام المشترك، وبلورة مواقف سياسية وخطط اقتصادية مشتركة يعد تحولا مهما فى جيناتها، ومؤشرا على إدراك قيادات دول «بريكس» للقدرات الكامنة فى هذا التجمع، وللزخم الذى أحدثه مصطلح مجرد أطلق فى الفضاء الاستثمارى منذ سنوات وظل يجتذب اهتمام مديرى الأصول ورؤساء الدول النامية الأخرى، حتى بات حلم اللحاق بتلك الدول يراود بعضها ولو لم تحصل لنفسها على حرف يمثلها فى المجموعة. عام 2008 شهد أول اجتماع قمة رسمى تدعو إليه روسيا (الأكثر احتفاء بالمصطلح) لدول مجموعة «بريك». نفس العام شهد أزمة الرهن العقارى الأمريكية وتداعياتها التى مازالت مستمرة حتى اليوم كانت أيضا فى صالح تنبؤات «أونيل» وجولدمان ساكس اللذين عدلا توقعاتهما ببلوغ الاقتصاد الصينى حجم الاقتصاد الأمريكى بحلول عام 2027، وبتفوق «بريكس» على اقتصادات الدول الغربية بحلول عام 2032 بدلا من 2039. اجتماع «بريك» الأول تلاه اجتماع لوزراء الخارجية، ثم اجتماع للقادة عام 2009 كان محوره تعزيز وضع المجموعة وتأثيرها الدولى، والبحث عن بديل للدولار الأمريكى فى التعاملات الدولية، لكن بالطبع بدون أية خطوات عملية ملموسة كما هى الحال حتى اجتماعهم الأخير بالصين.
***
وعلى الرغم من عدم بلورة شكل رسمى لهذا التجمع حتى يومنا هذا يعكس الطموحات السابقة، لكن أحدا لا ينكر أهمية معاملات الارتباط التى يمكن أن تنشأ بشكل مباشر وبشكل غير مباشر بين قرارات واقتصادات دول «بريكس».. فعلى سبيل المثال تنشط صناعة النحاس فى البرازيل نتيجة الطريقة التى تعتمدها الصين لصناعة السيارات.. وهكذا العديد من القرارات التى يمكن أن تؤدى إلى عائد اقتصادى كبير على دول المجموعة كلها.
الحلم الذى نشأ بريطانيا أمريكيا لتحرير الاقتصادات النامية من قيود الاقتصاد الغربى! مازال أمامه الكثير ليحققه فى ظل تنبؤات بزيادة حجم الطبقة المتوسطة بشكل كبير داخل بلدان المجموعة، واتساع السوق مع مشروع إحياء طريق الحرير والحزام الاقتصادى الصينى الذى يفرض بدوره نمطا جديدا لحركة التجارة وعملاتها خلال العقود القادمة. كما يحقق قدرا كبيرا من الربط بين عدد من دول المجموعة ومجموعة Nــ11 وهو ما يمنح مصر جواز مرور لجنى بعض ثمار التطور الإيجابى فى طبيعة هذا التجمع متعدد الأقاليم فى المستقبل القريب.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved