حب... ولكن

تمارا الرفاعي
تمارا الرفاعي

آخر تحديث: الأربعاء 11 سبتمبر 2019 - 7:55 م بتوقيت القاهرة

أحبها كمن يحب ابنته وقد أصابتها مصيبة غيرت من حياتها وملامحها، أعرف تفاصيل حياتها كما كانت قبل المصيبة وعاصرتها أثناء تلقيها الكدمة وبعدها فشهدت على محاولاتها المستمرة فى التأقلم.
***
أحبها كمن يحاول طوال الوقت أن يطبطب على صديقته المصابة بصدمة ويستمع إليها وهى تشهق فى البكاء ثم يقول «معلش» بينما يربت على شعرها المنكوش من الغضب.
***
أحبها كمن عرف حبيبته شابة ممشوقة قوية جميلة ثم عاش معها أثناء مصارعتها مرضا قضى على مفاصلها واحدا تلو الآخر فهرمت وتعبت وبقى هو يحبها لأن ما من طريقة ليتوقف فيها عن الحب بعد سنوات طويلة من الهيام رغم أن فى حبها الكثير من التعب.
***
أحبها كمن اقتنع بمقولة «الشكل لا يهم فالمهم هو حلاوة الروح» فروح المدينة لا روح مثلها بين كل مدن الأرض، بإمكانك أن تلمس السحب وتجد وجهك على التراب فى آن واحد. تحملك إلى السماء على مرجوحة الأحلام فتفتح يديك لاستقبالهم وتقع من أعلى المرجوحة ليرتطم وجهك وأحلامك بالأسفلت الساخن.
***
أحبها كمن رضى بقضاء يعرف أنه من نصيبه وقدر لن يفلت منه، امتزج دمى بماء نيلها ورمت على المدينة حجابا أعدته لها إحدى الساحرات من برجها القديم فشبكتنى. أعانى منها ولا أتركها. تسىء معاملتى وأحبها. أتعب منها وأبتعد ثم أعود جريا إذ لا حضن مثل حضنها أرتمى فيه فتعود لى الحياة.
***
فى الأسابيع القليلة التى تلت انتقال عائلتى من القاهرة، انشغلت بترتيبات عملية تساعدنا على الدخول سريعا بين طيات المدينة الجديدة. ركزت على التفاصيل الحياتية اليومية التى من شأنها أن تسرع من شعورنا جميعا بالاستقرار، سارعت بخبز كعكة ملأت المطبخ الجديد بتلك الرائحة السكرية المحببة، وقررت مكان علبة البن لتكون أول ما يظهر لمن يدخل إلى المطبخ فى الصباح. حاولت أن أمزج بين تموضع مألوف لأشيائنا القديمة فى بيتنا الجديد، وبين محاولة استغلال المساحة الجديدة بشكل أكثر عملية. أردت أن أشعر أننى وعائلتى ما زلنا فى مكاننا رغم أننا فى بلد جديد، أردت أن أؤكد على مقولة «البيت هو حيث وجدت قلبك»، أو ليس قلبى مع عائلتى التى انتقلت هى الأخرى إلى المدينة الجديدة؟
***
ثم جاءت زيارتى القصيرة إلى القاهرة لتعطل عملية التأقلم قصيرة العمر التى بدأتها. وجدت نفسى فى زحمة شارع صلاع سالم بعد أن خرجت من المطار فسلمت على عمارات العبور وأومأت برأسى إلى بائع كعك السميط المتجول، ليس متجولا تماما إذ إن السيارات قد شلت حركتها تماما فوق كوبرى 6 أكتوبر فتوقف هو الآخر ليرتاح قليلا من حرارة الجو وتلوثه. الإعلانات المزعجة بمضمونها ورسالتها ما زالت تغطى سماء المدينة وتصدح بمعروضات قد لا تعنى شيئا لمعظم من يروها. هل زادت طرقات المدينة اهتراء وهل زادت وجوه سكانها وجوما؟ أصل إلى بيتى فأدخله مسرعة كمن عاد من رحلة شاقة فى كتاب مغامرات يقرأه لأطفاله. أفتح الباب فلا يستقبلنى أحد. أضع شنطتى فى غرفتى وأتوجه إلى المطبخ فلا أرى صحن الزيتون على الرف. أتذكر صديقتى حين قالت لى فى المدينة الجديدة «وهل استقريت حتى تضعى صحن الزيتون على الطاولة؟» فأجبتها أن صحن الزيتون هو ما سوف يساعدنى على الشعور أننى أعيش الآن هنا.
***
أمضى بعض الوقت فى بيتى الصامت، فعائلتى أصبحت هناك وأنا الآن ضيفة لمدة يومين فى بيت لم يعد يشبهنى. البيت معقم كما كنت دوما أحلم أن يكون لكنه لا يعجبنى. الغرف كلها مرتبة ولا شىء على الأرض أو فى غير مكانه. ما كل هذا الضجر؟ أفتح الشبابيك علنى أدخل بعضا من ضوضاء القاهرة إلى بيتى فأشعر بالألفة. أسمع صوت الراديو الذى يسلى حراس المبنى المواجه لعمارتى. أسترق النظر إلى حديثهم فلا أحد هنا فى البيت لأتحدث معه. أسمع صوت سيدة عجوز تتذمر من البلد والشوارع والناس وأولادها والأخلاق التى تغيرت والمرتب الذى لا يكفى. أحاول أن أفهم إن كانت تتحدث وحدها أم توجه كلامها إلى شخص لا أراه من شباكى.
***
البيت دون روائح المطبخ وصوت لعب الأطفال بالماء فى الحمام، البيت دون سيارة صغيرة على الأرض ودون دمية نسيتها ابنتى على الكنبة. البيت دون كتاب تركه زوجى على الطاولة ودون صوتى يعلو فوق حركتهم جميعا حين أطالبهم بجمع أشيائهم فى أماكنها. البيت دون روح، أمشى فى الغرف الشاغرة وأتساءل عن معنى أن يكون بيتى مرتبا ونظيفا كذلك الذى نراه فى المجلات فى غياب من يملؤه بالحياة. أشعر أن أحدهم قد ضغط على زرار الصوت فى جهاز التحكم عن بعد، أشعر أن أحدهم قد رمانى من طائرة فوق مكان غريب هبطت فيه دون إصابة لكنى لم أتعرف عليه.
***
أحبها كمن يحب حبيبا قرر هو أن يهجره ثم عاد ليتلصص عليه فاستغرب لتغيره السريع. أحبها ولكن حبى لها هو حبى لناس فيها لم يتسنَ لى أن أراهم فى رحلتى القصيرة فجلست فى بيت معقم أحاول فك شيفرة الحب. هو حب... ولكن.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved