مائة عام على ظهور الحزب الاشتراكى المصرى.. حالمون بيسارٍ«مُعَطَّرٍ بالإنسانية»

نبيل مرقس
نبيل مرقس

آخر تحديث: السبت 11 سبتمبر 2021 - 8:30 م بتوقيت القاهرة

«نقلنا خبراء الأمن إلى الواحات فى قطارٍ خاص بعد أن قيدونا إلى بعضنا البعض بسلسلةٍ واحدة تمر من ثقبٍ فى القيود (الكلبشات) التى يضم كلٌ منها شخصين متجاورين. وكان من شأن هذه «الوحدة المتينة» أن من يرفع يده لشيء ترتفع أيدى رفاقه كلها معه، وكذلك شأنه عندما يرغب فى التبول. استغرقت الرحلة حتى سوهاج، ومنها إلى الواحات على مبعدة حوالى 400 كم من شاطئ النيل، عشرين ساعة دون طعامٍ أو ماء».. يوميات الواحات، صنع الله إبراهيم، دار الثقافة الجديدة.
تقابلت مع ألفريد نسيم ــ واحدٌ من أقرب الأصدقاء إلى نفسى ــ فى عام 1966. كنت مهندسًا غضًا حديث التخرج فى العشرين من عمرى، أَتَهَجَّى أَبْجَدِيَّاتْ الحياة. كان ألفريد فى السادسة والثلاثين من العمر، خرج من «معتقل الواحات» منذ سنتين بعد أن أمضى مع باقى رفاقه خمس سنواتٍ بتهمة الانضمام إلى أحد التنظيمات اليسارية «المعادية» للنظام السياسى القائم. جذبنى ألفريد للوهلة الأولى بسلوكه الإنسانى المتضع غير المتكلف، والمُعَطَّرْ بالمحبة. شعرت مع ألفريد وزوجته الفاضلة مفيدة وكأننى أحد أفراد أسرتهما الوليدة. كان نموذجيًا فى تعامله الإنسانى الودود مع الجميع، وخاصةً مع طبقة العمال الصعايدة الذين يكدحون فى إعداد وتشغيل «طبلية» الخرسانة (الاسم الدارج لفريق العمال الأشداء المتخصصين فى خلط وصب الخرسانة يدويًا). استطاع ألفريد بجذوره الصعيدية وحسه الإنسانى المسيحى المغروس فى طفولته والمضفور فى ثقافةٍ يساريةٍ غير متعالية، أن يتعامل معهم وكأنه واحدٌ منهم. خاطبهم بلهجتهم الصعيدية الدارجة، لم يخجل من الحديث الدارج والبسيط المتعاطف مع أحوالهم. ربما كانوا يُذَكِّرونه وهم يصعدون سلسلة السقّالات ذات الارتفاع الشاهق يحملون «قروانة» الخرسانة الممتلئة ليصلوا بها إلى الأدوار العليا من المنشأ الخرسانى دون خوفٍ أو كلل، بما كان يبذله من جهدٍ بدنى مع رفاقه فى المعتقل أثناء تكسيرهم المنتظم لحجارة الجبل تحت حراسةٍ مسلحة. كان يدرك قلة أجورهم وغياب حقوقهم مع جشع المقاول وتعسف «ريس الطبلية» فى سياق هيراركية الظلم الاجتماعى السائدة فى مهنة المقاولات وغيرها من أشكال إدارة العمالة المؤقتة وغير المنتظمة فى مصر. كان يتدخل فى شجاعةٍ للذود عن حقوق عاملٍ سقط من أعلى السقالة أثناء تأدية عمله، أو آخر استثقل ظله ريس الطبلية فأفقده مصدر رزقه.
كنَّا نعمل معًا فى إنشاء محطة توليد كهرباء المكس الغازية. كان ألفريد يمثل شركة المقاولات المصرية (مختار إبراهيم سابقًا) وهى واحدة من كبريات شركات المقاولات الوطنية فى مصر، وقد كُلِفَّتْ من قبل وزارة الكهرباء بتنفيذ الأعمال الإنشائية للمحطة. بينما كنت أمثل الجهاز التنفيذى للمشروعات بوزارة الكهرباء المشرف على تنفيذ المحطة. كانت هذه هى الممارسة المهنية الأولى لى فى مجال الهندسة المدنية. لم يُعِدُنى أحدٌ لأداء دورى الإشرافى والفنى، ولم أتلق أى تدريبات تمهيدية من جهة عملى الحكومى. وكان رئيسى المباشر فى حالة صدام عنيف مع رؤسائه فى العمل وانعكس ذلك على شكل علاقتنا المهنية والإنسانية المضطربة. فى هذا السياق المهنى غير السلس، أدركت مبكرا أنه استنادًا إلى فارق الخبرة الهندسية والإنسانية الهائل بين ألفريد وبينى فقد كان من الطبيعى ومن الذكاء أن أتخذه – دون تكبر أو معاندة – معلمى الأول فى ممارسة الهندسة المدنية التى لا أعلم عنها شيئًا خارج كشاكيل المحاضرات، ومرشدى فى أدبيات التعامل الإنسانى الدَمِثْ والخلوق التى كنت فى أشد الحاجة إليها. بعد شهورٍ قليلة من بدء عملى فى المشروع، جاء الرئيس الأعلى للجهاز الذى أتبعه فى زيارةٍ مفاجئة للموقع. سأل عنى ألفريد وعرف منه أننى لم أصل بعد. وعند حضورى بعد قليل لفت نظره الجاكيت القطيفة الأنيق الذى أرتديه والذى لا يلائم بأى حالٍ ظروف العمل الميدانى الخشنة، من حيث العبور بين أكوام الرمل والزلط أو تسلق السقالات الخشبية المحيطة بالمنشأ. راجعنى فى حدة عن أسباب التأخير، وعن شكوى رئيسى المباشر من نزولى إلى القاهرة دون إذنٍ منه. رددت عليه فى حدة مماثلة، شارحًا أسباب نزولى إلى القاهرة بأمرٍ مباشر من مدير الإدارة لتأدية أعمالٍ مكتبية كلفت بها. تدخل ألفريد لتهدئة الموقف المتصاعد بيننا، وأخذنى جانبًا ليطلب منى الهدوء والتعامل بحكمة واحترام مع «عبدالعزيز بك».
أحبنى ألفريد كشقيقه الأصغر، وحاول أن يساعدنى فى بناء شخصيتى وإنضاج ملامح هويتى (تلك التى كانت – وربما لم تزل – فى طَّوْرِ التَشَكّلْ). تعلمت منه أولى خطواتى العملية كمهندس تنفيذى فى الميدان، كما أَثَّر فى وجدانى كشخصٍ يسارى يحب مصر ويبذل شبابه الغض من أجل تقدمها، ويفيض على الجميع من حوله بإنسانيةٍ عذبة. بهرتنى قصصه الشائقة عن رفاق المعتقل، بدايةً بشهادته عن شهدى عطية الشافعى وكيف لقى حتفه فى شجاعةٍ تحت ضربات عصا السجان فى أوردى أبى زعبل فى 16 يونيو 1960 (هو شهدى عطية الشافعى خريج جامعة أكسفورد البريطانية المرموقة وصاحب كتاب «تطور الحركة الوطنية المصرية: 1882ــ1956»، ساهم فى تأسيس اللجنة الوطنية للطلبة والعمال عام 1946 وتولى مسئولية «دار الأبحاث العلمية» التابع لتنظيم أسكرا قبل أن يلتحق بتنظيم الحركة الديمقراطية للتحرر الوطنى «حدتو»، وكان داعما ــ رغم اعتقاله ــ للحكم الوطنى القائم بقيادة جمال عبدالناصر). وانتهاءً بقصة المثقف البارز رقيق البنية د. لويس عوض الذى كان يحتاج إلى من يساعده من الرفاق الأشداء لكى يفى بمقطوعيته فى تكسير حجارة الجبل. وقد عرَّفنى ألفريد بعد ذلك بسنوات عديدة، على واحدٍ من هذه النماذج الإنسانية الفريدة. عندما توجهت فى النصف الثانى من عام 1976 بصحبته إلى مكتب الأستاذ زكى مراد المحامى – سليل الحضارة النوبية العظيمة ــ وأحد قيادات «الحركة الديمقراطية للتحرر الوطنى» (حدتو) التنظيم اليسارى الشهير الذى تشكل عام 1947 من خلال اندماج الحركة المصرية للتحرر الوطنى مع منظمات إسكرا والقلعة وطليعة الإسكندرية وقسم كبير من «تحرير الشعب» (راجع عبدالقادر ياسين، الحركة الشيوعية المصرية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2012، ص 10) وأصبح أكبر التنظيمات الشيوعية على الساحة المصرية وقتها بعضوية تصل إلى ألفى عضو قبيل قيام ثورة يوليو 1952. لقينا الأستاذ زكى بوجهه السمح البشوش وملامحه النوبية الأصيلة، وتحمس عن طيب خاطرٍ لييسر لى الدخول إلى أعماق المجتمع النوبى المهاجر إلى كوم أمبو لأقوم بدراسةٍ ميدانية عن «نسق المسكن فى الثقافة النوبية بين التنمية والاحتواء» أثناء دراستى بمعهد التخطيط القومى بالقاهرة.
•••
وبرغم تكليف الدولة المصرية ــ فى العقود الخمسة الأخيرة ــ لعددٍ من رموز اليسار المصرى بمناصب وزارية هامة (د. اسماعيل صبرى عبدالله / وزارة التخطيط ــ د. فؤاد مرسي/ وزارة التموين والتجارة الداخلية ــ د. عبدالمعبود الجبيلى / وزارة البحث العلمى والطاقة الذرية ــ د. جودة عبدالخالق/ وزارة التضامن والعدالة الإجتماعية) ظل الموقف الثابت لأجهزة الدولة المصرية هو إدانة الفكر السياسى اليسارى ومطاردة معتنقيه. وأتوقف هنا عند سؤالٍ مازال يحيرنى حتى هذه اللحظة، لماذا تثير كلمة «شيوعى» هذا الكم المعتبر من مشاعر الخشية والفزع لدى من يتلقاها للوهلة الأولى من الجمهور العام فى مصر (راجع وصف أمينة رشيد لكيفية تلقيها خبر انتماء محمد سيد أحمد إلى الشيوعية ــ «محمد سيد أحمد: لمحات من حياة غنية»، دار الشروق، 2010، ص 29) أو من ممثلى أجهزة الأمن المصرية؟ لماذا لم يستطع المجتمع المصرى المعاصر أن يرسم صورةً واقعية آمنة للإنسان الشيوعى يمكن أن نتعامل معها فى طمأنينةٍ ويسر؟ ولماذا لم تستطع الحركة اليسارية المصرية بتاريخها الوطنى العريق ورموزها الأجلاء الذين كانوا ومازالوا يملأون فضاءات حياتنا الفكرية والثقافية والنقابية ــ وعلى رأسهم الرمز الوطنى الكبير أحمد نبيل الهلالى قديس اليسار المصرى وخادم الطبقة العاملة المصرية ــ أن تحقق «التطبيع الثقافى» مع أفراد المجتمع العاديين ومع أجهزة الدولة. ولماذا يلجأ أديبنا الكبير الأستاذ صنع الله ابراهيم فى كتابه «يوميات الواحات» الصادر عام 2005 (بعد 84 عامًا من ظهور الحزب الاشتراكى المصرى فى 29 أغسطس 1921 بقيادة سلامة موسى وعلى العنانى ومحمد عبدالله عنان وحسنى العرابي) إلى محاولة تقديم صورة مقبولة شعبيًا لذلك «الإنسان الشيوعى»:
«... لكنى كنت أنا وغيرى فى حالة تربية ثقافية مستمرة انعكست على سلوكنا وأخلاقياتنا وعلاقاتنا الاجتماعية. آمنا أن الشيوعى يجب أن يكون قدوةً لغيره فى السلوك والخلق وأن يحقق اتساقًا بين حربه ضد الاستغلال وحديثه عن العدالة الاجتماعية وبين حياته الخاصة. وبدت قيم الأمانة والصدق والإخلاص والوفاء والتضحية والزهد والتعالى على المظهرية، واحترام المرأة والبعد عن الغرور، متسقة مع التعاليم الدينية والمفاهيم الإنسانية“ (يوميات الواحات، ص 15).
•••
بعد خروجه من المعتقل عام 1964، قرر صديقى ألفريد نسيم العضو السابق فى تنظيم د. ش. (ديمقراطية شعبية) بوعيه الإنسانى البسيط أن يبتعد تمامًا عن السياسة التى أمضى كل سنوات شبابه متفرغًا لتحقيق أحلامه من خلالها فى نضالٍ مستمر لتحقيق المبادئ الشيوعية التى آمن بها وراهن على انتصارها، وصدم فى اخفاقات عددٍ من رفاق النضال القدامى الذين خلعوا عباءة الاشتراكية وارتدوا عباءات أخرى ربما أكثر بريقا ولمعانًا. وبعد أن أن خرج من المعتقل «مُعَوَقًا» عن زملائه الذين سبقوه فى التخرج والنشاط المهنى وبناء الأسرة، قرر أن يختار طريق النضال الحياتى اليومى من أجل بناء أسرته الصغيرة التى تضم زوجته المخلصة وابنتيه الجميلتين. هذه الأسرة التى تفرغ لخدمتها حتى وفاته عام 2013، لعلها تعوضه عن آلام سنوات الاعتقال ومرارة تهاوى أحلام النضال وذكريات الحرمان الطويل من متع الحياة الطبيعية. وترك لنا ألفريد نسيم بنموذجه الإنسانى الناصع والبسيط والمتواضع ــ الذى لم يغادرنى ــ كثيرا من التساؤلات حول مستقبل اليسار فى مصر، التى ربما نحتاج إلى اجتهادات أجيال شابة جديدة من اليسار المصرى للإجابة الشافية والمخلصة عليها (راجع سمير كرم، «المستقبلية الماركسية: ماركس وإنسان المستقبل»، الشرارة، العدد الأول ــ السنة الأولى، سبتمبر 1974، بيروت).

باحث بمعهد التخطيط القومى (سابقًا)

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved