المزيد من دراما تقبيح الحسن


ابراهيم البيومى غانم

آخر تحديث: الإثنين 11 أكتوبر 2010 - 1:23 م بتوقيت القاهرة

 نظلم وحيد حامد لو قلنا إنه أنهى صورة النظام الخاص وقضية السيارة الجيب على هذا النحو الشائه، الذى ظهر فى المسلسل ولن يرجع إليه. فقد يتناول فى الجزء الثانى بقية القصة، خاصة أن التحقيقات فى قضية السيارة الجيب استمرت سنتين وبضعة أشهر، منذ نهاية عام 1948، وانتهت وصدر الحكم فيها نهائيا بتاريخ 17 مارس 1951، ونص الحكم وحده يقع فى 224 صفحة من ورق الفولسكاب.

فقد نرى مثلا فى حلقات الجزء الثانى مشاهد من المحاكمات فى قضية الجيب لأولئك الشهود، الذين ذكرناهم وهم ينصفون الجهاز الخاص والشيخ والجماعة. وقد يأتى وحيد حامد بمشهد ختامى لتلك المحكمة والقاضى ينطق بالأحكام على المتهمين أو يعرض لبعض حيثيات الحكم الذى أصدرته، من يدرى؟. وقد نرى إبراهيم عبدالهادى، الذى اغتيل الشيخ البنا فى عهده، وأظهره المسلسل رجلا حريصا على أمن مصر ومصلحة الشعب واقفا أمام محكمة الثورة برئاسة عبداللطيف البغدادى سنة 1953، ونسمع الاتهامات التى وجهت إليه وحكم عليه بسببها بالإعدام ثم خفف للمؤبد ومنها أنه أتى أفعالا من شأنها إفساد أداة الحكم، وذلك أنه فى خلال عام 1949 هيأ لأعوانه الأسباب، التى يسرت لهم قتل المرحوم حسن البنا، وعمل على تضليل التحقيق بقصد إفلات الجناة من العقاب؟ (ص64 من الجزء الأول من محكمة الثورة، أشرف على إعداده للنشر أمين حسان كامل).

وقد يأخذ الأستاذ فى بقية أجزاء المسلسل بحكم القضاء الذى ميز بوضوح بين انحراف بعض أعضاء الجماعة، وبين أصولها الفكرية ورسالتها وتوجيهات قيادتها برئاسة الشيخ حسن البنا. وقد يقول كما قالت المحكمة: إن الجماعة «ترمى إلى تطهير النفوس.. وإنشاء جيل جديد من أفراد مثقفين ثقافة رياضية عالية، مشربة قلوبهم بحب وطنهم والتضحية فى سبيله بالنفس والمال». وكما قالت أيضا: «ولما أن وجدوا أن العقبة الوحيدة فى سبيل إحياء الوعى القومى فى هذه الأمة هو جيش الاحتلال الإنجليزى الذى ظل فى هذا البلد قرابة سبعين عاما.. ولم تنته المفاوضات والمجادلات الكلامية إلى نتيجة طيبة، ثم جاءت مشكلة فلسطين وما صحبها من ظروف وملابسات.

لما كان كل هذا، اختل ميزان بعض أفراد شباب جماعة الإخوان، فبدلا من أن يسيروا على القواعد التى رسمها زعماؤهم عند إنشاء الجماعة، والتى كانت تؤدى حتما إلى تربية فريق كبير من الشعب وتثقيفهم وإعلاء روحهم المعنوية.. بدلا من ذلك أرادوا أن يختصروا الطريق، ظنا منهم أن أعمال النسف تبلغ بهم أهدافهم من سبيل قصير.. وحيث إنه من هذا تبين للمحكمة أن أفراد هذه الفئة الإرهابية لم يحترفوا الجريمة، وإنما انحرفوا عن الطريق السوى، فحق على هذه المحكمة أن تلقنهم درسا حتى تستقيم أمورهم ويعتدل ميزانهم..

على أن المحكمة تراعى فى هذا الدرس جانب الرفق فتأخذهم بالرأفة تطبيقا للمادة 17 عقوبات نظرا لأنهم كانوا من ذوى الأغراض السامية التى ترمى أول ما ترمى إلى تحقيق الأهداف الوطنية لهذا الشعب المغلوب على أمره». (انتهى ما نقلناه من الوثائق الرسمية للمحكمة فى قضية السيارة الجيب).

وهل سنرى أيضا هيئة المحكمة وهى تصدر حكمها ببطلان قرار النقراشى باشا بحل جماعة الإخوان، وتأمر باستعادة وضعها القانونى واسترداد كل ممتلكاتها، التى صودرت بموجب قرار الحل؟، وهى إدانة واضحة للإجراءات التعسفية لحكومتى النقراشى وعبدالهادى، اللتين هلل لهما المسلسل كثيرا!

قد يتغلب وحيد حامد المبدع الدرامى، على وحيد حامد الأيديولوجى المسيس فيرسم تلك المشاهد فى بقية المسلسل، فيسهم فى تعريف الأجيال الجديدة ببعض حقائق تلك المرحلة من تاريخ مصر.. وأنه سيحترم نفاذ بصيرة المحكمة، التى دققت فى تفاصيل القضية لأنها لم تستسلم للاتهام، الذى كان موجها للجماعة برمتها فى قضية السيارة الجيب وهو أنها تسعى لقلب نظام الحكم، وأن الأداة التى أعدوها لهذه الغاية هى جماعة إرهابية سميت «النظام الخاص»، وقالت المحكمة بالحرف الواحد:

«وهذا الذى صوره الاتهام فيه خلط بين أمرين: الأول التدريب على استعمال الأسلحة وحرب العصابات، والأمر الثانى ذلك الاتجاه الإرهابى، الذى انزلق إليه بعض المتطرفين من أفراد تلك الجماعة، وكان من أثر هذا النظر أن انتهى الاتهام إلى القول بأن النظام الخاص بجملته نظام إرهابى. وحيث إن المحكمة ترى التفرقة بين الأمرين، فالنظام الخاص يرمى إلى إعداد فريق كبير من الشباب إعدادا عسكريا تطبيقا لما دعا إليه مؤسس هذه الجماعة فى رسائله المتعددة من أن الأمر أصبح جدا لا هزل فيه، وأن الخطب والأقوال ما عادت تجدى، وهذا الإعداد إنما قصد به تحقيق ما ورد صريحا فى قانون الجماعة من أن من بين أهدافها تحرير وادى النيل والبلاد الإسلامية، وهذا النظام الخاص بحكم هذا التكوين، لا يدعو إلى الجريمة، ولا يعنيه أن فريقا من أفراده كونوا من أنفسهم جماعة اتفقوا على أعمال القتل والنسف والتدمير».

ومما قالته المحكمة فى حيثيات حكمها بالحرف:
«وحيث إنه مما يدل على أن النية لدى أفراد هذا النظام الخاص كانت متجهة إلى مقاومة جيش الاحتلال بعض ما ضبط فى السيارة من أوراق ومنها أوراق تحض على أعمال الفدائيين، أشير فيها إلى أن الصداقة البريطانية المصرية مهزلة، وأن الإنجليز يظنون شعوب الشرق مسالمة ساذجة، ثم تحدث كاتب هذه الأوراق عن التدريب على استعمال زجاجة مولوتوف، وعرقلة المواصلات، وتعطيل وسائل النقل الميكانيكية والقوات المدرعة، وانتهى إلى القول فى صراحة أنهم إنما يقاومون العدو الغاصب، كما جاء فى أوراق أخرى ما يدل على هذا الاتجاه».

ثم قالت المحكمة: وحيث إن أثر هذا التدريب الروحى العسكرى قد ظهر عندما قامت مشكلة فلسطين، وأرسلت الجماعة الكثير من متطوعيها للقتال، إذ شهد (بذلك) أمام المحكمة كل من اللواء أحمد بك المواوى القائد الأول لحملة فلسطين، واللواء أحمد فؤاد صادق باشا الذى خلفه بما قام به هؤلاء المتطوعون من أعمال دلت على بسالتهم وحسن مرانهم».

قارن الآن بين ما أوردته تلك الوثائق الرسمية الحكومية وحكم المحكمة عن النظام الخاص وحقيقته وقضية السيارة الجيب، وبين ما جاء فى حلقات مسلسل الجماعة لوحيد حامد، وستكتشف بسهولة أنه أخذ مادته من تقارير الأجهزة الأمنية، ومن اتهام النيابة، ومن كتابى رفعت السعيد، وعبدالعظيم رمضان. وترك «عنوان الحقيقة» المتمثل فى حكم المحكمة، وشهادات كبار قادة الجيش المصرى وقد أوردنا فقرات مطولة منها.

لم يكتف المسلسل بتبنى وجهة نظر الادعاء فى قضية السيارة الجيب، وتعميم تهمة الإرهاب على النظام الخاص برمته، وهو ما فندته المحكمة كما ذكرنا وإنما ألصق بالشيخ والجماعة تهما أخرى مختلقة ولا تقل بشاعة، ومنها: تقويل البنا إنه قال: «من يفشى سرا من أسرار النظام الخاص يحل قتله، وأنه لا مكان لوجود خائن فى صفوف التنظيم الخاص. الخائن يقتل، وقتله مباح شرعا».

(الحلقة رقم 20 من المسلسل). وإظهار الشيخ البنا فى المسلسل فرحا راضيا عن مقتل الخازندار والنقراشى، وإلصاق تهمة اغتيال أحمد ماهر إلى الجهاز الخاص بإيماءات بين البنا والسندى تشير بإصبع الاتهام إلى توجيه البنا له باغتياله (الحلقة رقم 24)، ثم بنسبة قاتله سرا للجهاز الخاص، وللحزب الوطنى علنا، واختلاق رواية تقول إن محمود عساف مستشار النظام الخاص هو الذى اقترح على الشيخ توجيه أعمال النظام سنة 1948 ضد الإنجليز والصهاينة بعيدأ عن القتل الداخلى (!) وكأن النظام قام ليقتل المصريين، لا الإنجليز والصهاينة أصلا (الحلقة 25)، وتصوير قرار حل الجماعة فى ديسمبر 1948 على أنه رد فعل حكومى على أعمال عنف للجماعة واكتشاف السلاح المخبأ فى عزبة الشيخ فرغلى (الحلقة 26)، وليس استجابة لضغوط الاحتلال الإنجليزى والتدخلات الأمريكية والفرنسية، تلك الدوائر التى أزعجتها أخبار قوة متطوعى الجماعة فى حرب فلسطين، وضغطوا على النقراشى لقبول الهدنة التى رفضها الإخوان.

ثم تصوير البنا وهو يخبط رأسه فى المكتب ويبكى بعد سماع قرار الحل (الحلقة 27)، ويعترف بأن جماعته ملأت البلد بالعنف (الحلقة 28)، وكل ذلك لا أساس له فى مصادر التاريخ ووثائق تلك المرحلة، وهى مشاهد من صنع مؤلف السيناريو اعتمادا على تهويمات رفعت السعيد وعبدالعظيم رمضان أساسا.

دور الشيخ والجماعة والنظام الخاص فى القضية الوطنية أسقطه وحيد حامد تماما، وشطبه شطبا حتى تستقيم روايته، التى تختزل علاقة البنا وجماعته بأطراف الحياة السياسية فى العمالة للقصر حينا، ولأحزاب الأقلية حينا، وللمخابرات البريطانية حينا، وممارسة العنف ضد الجميع فى كثير من الأحيان!

فى كتابنا «الفكر السياسى للإمام حسن البنا»، عرضنا بإسهاب من خلال الوثائق لدور البنا والجماعة فى القضية الوطنية منذ اعتراض الإخوان على معاهدة سنة 1936، إلى وصول القضية إلى مجلس الأمن أواخر عهد النقراشى، ثم المقاومة فى مدن القناة وقيام ثورة يوليو بدعم من الجماعة. وحقائق ما عرضناه أغفلها المسلسل. ووجدناه فى (الحلقة رقم 24 مثلا)، وهو يصور بعض الأعمال الفدائية للإخوان ضد معسكرات الإنجليز، يصورها على أنها لإثارة الإنجليز ضد حكومة النقراشى كى تتم إقالتها لأنها تضايق الإخوان، وليس لأنهم ضد الاحتلال، وكأن الأستاذ وحيد لم يطلع على حكم محكمة السيارة الجيب، ولا قرأ حيثياتها فى تلك القضية، ولا حتى قرأ كتابنا الذى وضعه ضمن مراجعه.

وكما أسقط دور الشيخ والجماعة فى القضية الوطنية المصرية، أسقط دورهم بجرأة على حقائق التاريخ فى قضية فلسطين، وهو الدور الذى سجلته الوثائق منذ نشوب ثورتها الكبرى بدءا من 1936، مرورا بالاعتراض على مشروع التقسيم الأول الذى وضعته اللجنة الملكية البريطانية سنة 1937، وبتشكيل النظام الخاص، والاعتراض على حركة الهجرة اليهودية إلى الأراضى الفلسطينية أثناء الحرب العالمية الثانية، ورفض قرار التقسيم الذى صدر فى نوفمبر 1947 عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، ثم دخول حرب فلسطين والاستبسال فى المقاومة بشهادة قادة الجيش المصرى، وتقديم الإغاثات للاجئين بالتنسيق مع جلال فهيم باشا وزير الشئون الاجتماعية فى حكومة النقراشى، ورفض قرارات الهدنة وغير ذلك مما عرضناه موثقا فى كتابنا «الفكر السياسى للإمام حسن البنا».

أسقط وحيد حامد كل هذه الإسهامات فى القضيتين الوطنية والفلسطينية فجاء المسلسل فقيرا فى مضمونه كما قلنا. وما زلت أتساءل مع المتسائلين: إلى متى يظل تاريخ مصر عرضة للانتهاك والتشويه، ولمصلحة من الاستمرار فى إهمال هاتين الصفحتين من تاريخ الشيخ والجماعة فى أغلب الكتب التى أرخت للحركة الوطنية المصرية فى تلك الفترة؟.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved