محنة مصر الأخرى

فهمي هويدي
فهمي هويدي

آخر تحديث: الإثنين 11 أكتوبر 2010 - 10:05 ص بتوقيت القاهرة

صدق أو لا تصدق: فى مصر يموت سنويا 90 ألف شخص بسبب الإصابة بأمراض ذات صلة بتلوث المياه. ومن هؤلاء 17 ألف طفل. كما أن 15 مليون طن من القمامة تلقى كل سنة فى المجارى المائية، مما يؤدى إلى وجود نحو 9 ملايين طن قمامة تسبح فى البيئة المحيطة بنا، إضافة إلى مليونى طن من الحمأة ـ ناتج الصرف الصحى ـ يصعب التخلص منها.

 

وهذه يعادلها 2.8 بليون متر مكعب من المخلفات تصل إلى المجارى المائية سنويا. وإلى جانب ذلك فهناك 31 مليون مواطن مصرى يعيشون فى 4 آلاف قرية بلا خدمات للصرف الصحى. كما أن 5 ملايين طن من المخلفات الصناعية لا تجد لها طريقا سوى المجارى المائية، منها 150 ألف طن تصنف بحسبانها «ضارة جدا».

هذه الأرقام نشرتها جريدة «الشروق» فى عدد 28 سبتمبر الماضى. منسوبة إلى مدير إدارة التوجيه المائى فى محافظة الفيوم الأستاذة نجوى الخشاب، التى ذكرت أثناء ورشة العمل التى أقيمت هناك أنها استندت فى المعلومات التى أوردتها إلى تقارير منظمة الصحة العالمية.

يحتاج المرء إلى بعض الوقت لكى يستوعب الصدمة، ويتأكد من أن المعلومات صحيحة، وأنها تصف بلدا ينتسب إلى القرن الواحد والعشرين، وأن ذلك البلد له حضارة وتاريخ ويتباهى أهله بأنه ليس بلدا عاديا ولكنه «أم الدنيا»، المرحلة التالية بعد الاستيعاب تثير السؤال التالى: إلى أى شريحة فى المجتمع المصرى ينتمى أولئك التسعون ألفا ومعهم السبعة عشر ألف طفل، الذين يموتون كل عام بسبب تلوث المياه، وأين يوجد الـ31 مليونا الذين يعيشون فى قرى محرومة من الصرف الصحى؟

وأنت مغمض العينين، ودون أن تبذل أى جهد فى التحقيق والتحرى، سوف تستنتج أن هؤلاء هم سكان الأقاليم فى الوجهين البحرى والقبلى. ليس فقط لأن ذلك لو حدث فى القاهرة أو حتى الاسكندرية لقامت الدنيا ولم تقعد ولما توقف ضجيج الإعلام وصياح أهل «البندر»، ولكن أيضا لأن الصحف نشرت قبل أشهر قليلة تقارير عدة حول اختلاط المياه بالمجارى فى بعض محافظات الوجه البحرى والصعيد (القليوبية وحلوان) سواء كانت المياه للشرب أو للرى.

وهو ما يعنى أن الخبر ليس جديدا فى أصله، ولكن الجديد ينصب على نطاق الكارثة ومدى عموم البلوى.
لن نبالغ إذا قلنا إن المعلومات التى ذكرت فى ملتقى الفيوم ترسم صورة لبعض ملامح مصر الأخرى، البعيدة عن العين ومن ثم البعيدة عن القلب كما نقول فى تعبيرنا الدارج. والمشكلة أن هذه «الأخرى» هى مصر الحقيقية، التى جنت عليها مصر التليفزيونية فأقصتها وحجبت عنها الضوء.

وأبقت عليها صورة بلا صوت وحضورا هو صنو الغياب.
تسوغ لنا هذه الخلفية أن نستطرد متسائلين: هل مشكلة مصر الأخرى تنحصر فى تلوث المياه فيها وحرمانها من خدمات الصرف الصحى، أم أن ذلك أحد أوجه المشكلة التى تتمثل أساسا فى تدهور الأؤضاع المعيشية وانهيار الخدمات فيها بوجه عام؟

لن نكون متعسفين إذا قلنا إن ثمة إهمالا مروعا للأقاليم فى مصر، وأن تدهور أوضاع الخدمات فى تلك الأقاليم يشكل ظاهرة عامة يعانى منها الجميع. وللأسف فإن وسائل الإعلام المصرية حين حصرت اهتمامها فى القاهرة والسلطة المتمركزة فيها، ولم تعد تخرج منها إلا على سبيل الاستثناء، فإنها غيبت الأقاليم وهمشتها، الأمر الذى ساعد على إقصائها والتعتيم على ما يجرى فيها.

 

حينما يحرم 31 مليون مصرى من خدمات الصرف الصحى، فإننا لا نستطيع أن نتوقع لهم حظا يذكر من التعليم أو الرعاية الصحية أو الحقوق المدنية الأخرى. وإذا أضفنا إلى ذلك استشراء الفساد وتغول الأقوياء وسطوة أجهزة الأمن، فإن ذلك يصور لك محنة أهل مصر الأخرى.

التقيت بعض أهل بلدة «فاقوس» بمحافظة الشرقية الذين حدثونى عن نصيب بلدتهم من المحنة، وسمعت منهم ما سبق أن سمعته من أهلنا فى «قويسنا» بمحافظة المنوفية. ولم يختلف هذا وذاك فى مضمونه عما أتلقاه من رسائل وشكاوى يبعث بها الغيورون والناشطون فى الصعيد، وخلصت من كل ذلك إلى أنه طالما أن المسئولين لا يحاسبون على أدائهم، وطالما ظل الناس ساكتين على المر، امتثالا أو خوفا، فلا أمل فى الخروج من المحنة أو حتى إيقاف التدهور، وتلك لعمرى ليست مشكلة مصر الأخرى وحدها، ولكنها مشكلة مصر كلها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved