اسمى مطبوع هناك

بسمة عبد العزيز
بسمة عبد العزيز

آخر تحديث: السبت 11 أكتوبر 2014 - 7:30 ص بتوقيت القاهرة

على رصيف الكورنيش وقف شاب أسمر ينادى على بضاعته. لم يكن أمامه شىء يُذكَر، فقط بعض الحُلِى والأساور المُعَلَّقة على مِشجَب طويل. أثمرت محاولته الدؤوبة جذب المارة، فاقترب منه بعضهم مستفسرين عن تفاصيل ندائه. كان يكرر جملة واحدة: «اكتب اسمك واسم حبيبك على حبة رز أو مكرونة فى دقيقتين».

كتابة الأسماء على الحُلِى تقليد عتيق. أدرك المحاربون قديما إن ثمة احتمالا لأن يُفقَدوا، وإن هناك احتياجا لأن يحتفظوا بما يُثبِتُ هويتهم؛ قلادة تُعَلَّقُ فى العنق أو سوار يُحَوِّطُ المعصم حيث يُنقَش الاسم، وربما بعض المعلومات الإضافية عن الشخص، حتى إذ ما قُتِلَ أو غرِق ومات، وتَعَرّض جسمُه إلى عوامل التعرية وتشوهت ملامحه، بقى ما يدل على شخصيته وتَعَرَّف عليه الآخرون. إنه الخوف مِن أن يبقى المرء مجهولا، خوف لا ينقضى بحال الموت.

•••

تدفع الغربة الاضطرارية شبانا كثيرين إلى أن يصطحبوا معهم، وهم بمنأى عن أرض الوطن، ما يؤنس وحدتهم. يلجأ بعضهم إلى نقش اسم محبوبته على قطعة من المعدن تبقى معلقة فى صدره أينما ذهب. منذ سنوات عديدة انتشر شكل مُمَيز مِن الحُلِىّ بين المحبين؛ دائرة مقسومة إلى نصفين، حوافهما غير منتظمة، متشابكة، ومصنوعة فى أغلب الأحوال مِن معدن رخيص؛ نصف يُكتَبُ عليه اسم الرجل والآخر يحوى اسم المرأة. يتبادلان فى لحظة الاعتراف بالحب وإعلان الرغبة فى الارتباط النصفين، بحيث يحتفظ الواحد باسم الآخر علامة على الإخلاص واستجلابا للشعور بالأمان.

اعتادت متاجر المشغولات الذهبية هى الأخرى أن تقدم خدمة حفر أو كتابة اسم المشترى على قطعة الحلى التى ينتقيها؛ يطلب المتزوجون فى العادة نقش اسم شريك أو شريكة الزواج على الدبلة، توثيقا للمحبة، وتأكيدا على الثقة فى حسن الاختيار، وتمنيا لاستقرار يحظى كما الاسم المنقوش بالدوام. فى هذه الحال يرتبط حجم النقش ونوعه وجودته بما سينفقه الشارى مِن مال.

حديثا انتقلت الأسماء، وأحيانا حروفها الأولى فقط، لتحتل مواضع أخرى إلى جانب الحُلِى. أصبحت على سبيل المثال تزين ميداليات المفاتيح، والأكواب. مع هذا التَغَيُّر لم تعد عملية النقش أو الطباعة مقترنة بطلب شخصيّ مُحَدَّد، وباتفاق مسبق بين الصانع والمستهلك، بل صارت عملا روتينيا من طرف واحد. تُكتَب الأسماءُ عشوائيا وتُطرَح فى الأسواق كيفما اتفق. الآف مِن «أيمن» و«آية» و«محمد» وغيرها؛ يراها من يراها، يلتقطها الأسرع والأمهر، وبالطبع الأسعد حظا، ولا يلبث المُنتِج أن يعيد طباعة ونقش ما جرى سحبه وازداد عليه الطلب. يفقد الأمر خصوصيته، ويصبح الناس جميعهم متشابهين، عشاقا وعزابا ومتزوجين.

•••

منذ بضعة أشهر بدأت حملة المشروب الغازى الشهير التى أصابت الكبار والصغار بحُمَّى مؤقتة؛ انطلقت إعلاناتها المثيرة أولا، وتلتها الصفحات الإلكترونية وأرقام الهواتف ثانيا، لتخبر الملهوفين عن كيفية وضع أسمائهم على العلبة الصفيحية الحمراء، المتوهجة.

سعادة هائلة غمرت كبارا ابتاعوا العلبة وعليها أسماؤهم. سعادة لا يُعرَفُ تحديدا مَصدَرُها. على كل حال، بعثرت الحملة -التى أصابت نجاحا هائلا- أسماء الناس هنا وهناك، وفرضت فى بعثرتها المساواة. الأسماء على العلب متشابهة؛ الخط واحد والحجم واحد وكذلك اللون. أهدت الحملة لكثير مِن المستهلكين شعورا مُفتَقَدا بالاهتمام. اهتمام شركة عالمية عملاقة بمواطن عادى ضئيل، وطباعة اسمه على منتجها. أُضفِيَت بهجة الإعلان التلفزيونيّ الذى يراه الجميع على اسم لشخص مجهول، يسير متعرقا على قدميه فى زحام الطريق، مثله مثل شخص آخر قابع فى سيارة فاخرة، أو مضطجع أسفل شمسية فى أحد المنتجعات الصيفية. كلاهما فى النهاية يقضى جزءا من وقته أمام الشاشة، وقد ينفق جزءا من ماله لاقتناء العلبة.

رأيت حماسة الأطفال الشديدة، وتَلَهُفَهم للعثور كلٌ على علبته الخاصة. لا يشغل الطفل نفسه بأفكار من قبيل الخصوصية أو المساواة، ولا يرى نفسه إلا وحيدا وفريدا فى الكون. منذ عقدين أو ثلاثة كانت للأسماء أهميتها أيضا لدى الصغار، طالما جلس صبيان وبنات أمام التليفزيون، ينصتون إلى المذيعة المتمرسة التى تقدم برنامجها، وتقرأ خلاله عشرات من الأسماء أرسلها إليها آباء وأمهات. كان كل طفل يتمنى سماع اسمه، ويبكى فى العادة حينما ينتهى البرنامج دون أن يجده.

•••

مع تكرار نداء الشاب الأسمر، وظهور حبات الأرز والمكرونة بين يديه استعدادا لتلبية رغبات الزبائن، فكرت إنه يعيد إلى طقس كتابة الأسماء بعضا مِن خصوصيته، إذ يتيح للزبون اختيار الحبة، والتفاوض على سعر النقش، ومراقبة الأداء وانتظار النتيجة بشغف وفضول. راح الشاب يزاول مهمته وقد كف عن النداء لئلا يفسد عمله، فيما ارتفع صراخ طفلة صغيرة تطالب والدها بالبحث عن العلبة الحمراء التى تحمل اسمها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved