مصر عتيقة

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: الأحد 11 أكتوبر 2015 - 7:50 ص بتوقيت القاهرة

يهوى الرسم من أعلىو الوقوف فى أكثر نقطة ارتفاعا لكى يسجل مشهد تخرج فيه المدينة أحشاءها، لكن بظرف: نافذة مبنى بمنطقة الزنانيرى إلى جوار محطة مصر، فوق عمارة رمسيس، حيث تتداخل تفاصيل الميدان باتجاه العباسية، منظر باب الخلق من مئذنة مسجد المؤيد شيخ، مقاهى وسط البلد وتجمعاتها الثقافية، الجموع بمهرجان الفن ميدان أمام قصر عابدين. هكذا يصف رسام الكوميكس الشاب، محمد وهبة الشناوى، مدينته والحياة اليومية بداخلها، من خلال مجموعة اسكتشات بالأبيض والأسود، صدرت هذا العام بعنوان «القاهرة» عن دار كتابى للنشرو التوزيع. عمق مشهد المدينة من أعلى، بأبعادها المختلفة، كما لو أنها بدت تكره الإيجاز فى كل شىء، وكيف تغلف نفسها بحاجز لا مرئى يفصل بين العادى والاستثنائى، يفرض تساؤلات وتأملات عدة حول عمر المدن ومتى تشيخ وعلاقة المدينة القديمة بالجديدة، ومتى تكون «مصر عتيقة» فى مواجهة «مصر الجديدة»، وماذا تقول هذه عن تلك والعكس صحيح، ومتى تصبح «الجديدة» «قديمة».
***
فى ظنى أنه لو أراد الفنان محمد وهبة الشناوى، بعد سنوات، رسم العاصمة الجديدة (وقد لا يرغب لأنها ليست بالضرورة عالما يمثله)، قد تكون النتيجة أشبه برقعة فسيفساء ضخمة، تتجاور فيها من أعلى سلسلة من الأنساق المعمارية المتباينة، داخل أسوار المشاريع العمرانية الضخمة التى امتدت أفقيا بفضل المطورين العقاريين الجدد: فيللا أمريكانى بسطح أزرق، وعمارة شبه باريسية تليها قرية نوبية، ثم كومباوند آخر مزج بين الطراز العربى والبلجيكى مع بعض الزركشات الإضافية غير محددة العصر، إلخ.. ويتخلل ذلك قرافة «بمبى» تظهر من وقت لآخر، أو عمارة إسكان شعبى بالية، أو رقعة صحراوية صغيرة لا تزال خالية، وطبعا سيكون دوما هناك بشر يقطعون الطريق السريع مترجلين، دون سابق إنذار، فهم من ثوابت المشهد المصرى المعاصر.
المدينة عادة تعكس برنامجا اجتماعيا وفكريا ما، حلم شخص غالبا ما يكون الحاكم، الأمير الذى يرغب فى بسط نفوذه وحظوته عبر عاصمة حديثة، تحمل روح العصر من وجهة نظره وتخلد اسمه، وهو ومسئولوه يحاولون فرضا تقليل السطوة القاهرة اقتصاديا وسياسيا لمدينة مركزية استحوذت على التاريخ والجغرافيا طويلا، وبالتالى أصبح من اللازم إعادة توزيع السكان على الأرض بزحزحة العاصمة. عندئذ يظهر تصنيف «المدينة القديمة»، التى كانت يوما كل المدينة، وهو ما حدث فى السابق بالنسبة للقاهرة ومدن أخرى كثيرة: بداية مدينة عتيقة أقيمت داخل الأسوار والتحصينات تلبى احتياجات السكان وقت إنشائها، يختلط قاطنوها ويترددون على المحال نفسها لشراء ما لذ وطاب، ويعيشون ببيوت صممت لتوفر إضاءة مناسبة وتهوية طبيعية، ملائمة للعادات والتقاليد. ثم وسط مدينة على الطراز الأوروبى، أراده أيضا الحاكم أو المستعمر رمزا لدخوله وبلاده عصر الحداثة والتطوير. وبعدها أضيفت بعض الضواحى، سواء التى تكونت تلقائيا على الأطراف أو كجيوب داخل العمران، سواء التى تراصت بداخلها الفيللات والبنايات الراقية وربطها بالمركز خط مترو أو قطار.

***
وعلى الرغم من أن المشهد العمرانى هو مساحة تعكس الحيوات المتلاحقة للمجتمعات، فإننا لم نفكر بشكل كافٍ فى إمكانية تجديد هذه المدينة من داخلها. لم تطرح رؤية أوسع للتطوير أو التغيير على المدى البعيد فضجرنا من مدننا وضجرت منا. وجود مجموعة من ناطحات السحاب والفيللات ومراكز تجارية (مولات) ومجتمعات مسورة تزيد من حدة الانقسامات، وتمنع التواصل، لا يصنع مدنا، بل على العكس يمحو مدنا ويصيب أرواحها فى مقتل.
نضيف إلى العشوائية القائمة بالفعل عشوائية من نوع مختلف، وخلال سنوات، عندما يصعد أى رسام إلى أعلى بناية سيكون من الصعب عليه أن يحدد زاوية الرؤيا: من أين أبدأ، لكى أرى ماذا؟ قديم وجديد وما بينهما سور؟ هناك بالطبع فى مكان ما سيقف بلد يرتجل مستقبله ويشوه ماضيه، على الأقل عمرانيا. بلد يصعب تحديد ملامحه وزواياه حتى لو بالرسم.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved