يوم الدين

نيفين مسعد
نيفين مسعد

آخر تحديث: الخميس 11 أكتوبر 2018 - 9:30 م بتوقيت القاهرة

من اللقطة الأولى للفيلم داخلني إحساس بأن شاشة العرض ما هي إلا شفاط قوي امتصني وفرّغ الهواء من على المقعد الذي كنت أجلس عليه ولم يعدني حيث كنت إلا مع نزول تترات النهاية. ما بين اللقطات الأولى التي يعتلي فيها البطل عربة كارو ويفتش داخل أكوام القمامة واللقطة الأخيرة والبطل يطيح قباعته الخوص بستارتها التي تخفي وجهه المجذوم، ما بين هذه وتلك قمت بتبديل عدستي البصرية، لم أعد أغمض عيني حتى لا أرى هذه الحُفَر الجائرة في وجه بشاي سليم بطل الفيلم إشفاقا عليه، لا بل فتحتها على الآخر لأستمتع برؤيته وهو يواجه الدنيا بقميصه النظيف، ووجهه المجذوم يحمل شبح ابتسامة هي أقصى ما تسمح به عضلات وجهه من تعبير عن الفرح ، أحبك يا بشاي ..أحبك جدا .
***
هذا فيلم يوجع القلب كما أن فيلم بداية ونهاية وجع قلوبنا قبل ستين عاما بالتمام والكمال منذ عُرِض لأول مرة ومازال الوجع مستمرا مع كل عرض له، عاش فيلم بداية ونهاية رغم العقود الستة وأظن أن فيلم يوم الدين سيعيش ويعيش معه وجعه كلما شاهدناه. من أين أبدأ ؟ هل من تلك اللاءات المتكررة التي كنت أنهال بها على ابنتي عاما بعد عام وهي تطلب الذهاب في الرحلة التي كانت تنظمها مدرستها ل"مستعمرة الجذام" ؟ هل من الاحتفاء الشديد بالفيلم الأول لمخرجه في أهم المهرجانات السينمائية العالمية.. مهرجان كان ؟ هل من اللحظة التي صاحبتُ فيها البطل في رحلته للبحث عن الجذور؟ هل من صدمة اكتشاف أو إعادة اكتشاف أن مصر في حقيقتها عدة أمصار فيها المنتجع وفيها المستعمرة ؟ أرجوكم ابحثوا عن أي اسم آخر لأماكن عزل المرضى غير اسم المستعمرة فلقد تحررت مصر من الاستعمار وساهمت في تحرير دول أخرى كثيرة، هل يوجد معنى واحد لمفهوم الاستعمار؟
***
حبس الجمهور أنفاسه في أكثر مشاهد الفيلم إيلاما عندما كان الحمار واسمه حربي يحتضر، لعل بشاي سمّاه حربي لأنه كان حمّالا للأسية، يجر العربة الكارو المحملة بأشياء هي ليست بأشياء، يصعد مرتفعات وينزل وهادا في طريقه من بحري إلى قنا حيث بيت سليم الذي جاء منه بشاي، حمار لا يأكل ..لا يشرب.. لا يكًّل. لكن حربي لم يكن فقط حمّال أسية كان أيضا حمارا مقاتلا وفياَ فعندما أراد لصوص حقراء سرقته تشبث بالأرض ونهق عاليا فانتبه بشاي من نومه وأنقذه. نعم أنقذ بشاي حماره من أيدي اللصوص لكن أمام ملَك الموت وقف عاجزا، عندما صرخ بشاي أو رفيقه الطفل لا أذكر بالضبط "ما تموتش يا حربي" والماء يتدفق من فم الحمار دون توقف بلغ الخط الدرامي للفيلم منتهاه. رنّ تليفون أحد المشاهدين لمدة ڤيمتو ثانية ثم أسكته صاحبه فورا فالقاعة كلها ذاهبة للمشاركة في مراسم توديع حربي إلى مثواه الأخير.
***
كل تفصيلة من تفاصيل هذا الفيلم ترسل رسالة، الطفل محمد عبد الرازق أو "أوباما الجاموسة" الذي نزح من النوبة ينكأ بيُتمه وتعاسته الجرح النوبي الغائر ثم يتناساه ويكمل حياته، بشاي الذي يمشط شعره مرة واثنين وثلاثة في اليوم وكأنه يحرص على جمالية هذا الشعر أو الشيء الوحيد السليم فيه، القزم والكسيح اللذان ساعدا بشاي وصديقه للسفر إلى قنا في إشارة لأن المنبوذين يتضامنون انتظارا للحظة عدل في يوم الدين، النساء اللائي تأففن من نزول بشاي المجذوم إلى النهر فيما تسبح الماشية بسلام تام فلست تدري من يلوث ماذا بالضبط، جهاز التسجيل الذي يصيبه الخرس أثناء احتضار زوجة بشاي كأنه يدّخر بطاريته ليُسّري عن الأحياء، ولاحقا يرقص الطفل بالفعل علي أنغام أغنية "الولا ده الولا ده " التي تنبعث من الجهاز. حتى ديانة بشاي ترسل رسالة، هي لم تُستغل بشكل يوضح التمييز المزدوج ضد البطل كمسيحي ومجذوم، لكن قضية الفيلم لم تكن الدين، والمخرج يريد أن يقول إن بشاي هو أي مصري والسلام، ولذلك وجدنا بعض الناس الطيبين يتعاطفون مع بشاي ولا يتوقفون أمام دينه: ينهون أوراقه ويعزونه في زوجته ويدلونه على طريق الهروب، كما وجدنا أن بشاي نفسه يتأقلم بلا مشاكل مع بعض المواقف التي اضطر فيها لإخفاء اسمه أو حتى لصلاة العصر في المسجد، وحينما مات حماره ترك صديقه يقرأ الفاتحة على قبره. قضية المخرج هي التمييز ضد المجذومين في كل دين .
***
لماذا بدا بشاي سعيدا وهو يعود إلى "مستعمرة المجذومين" التي فر منها بحثا عن أهله؟ لعله اقتنع بما قاله أبوه عن أنه لا يريد له أن يرى متع الحياة أمامه ولا يطولها.. متع كتلك التي قدم الفيلم بعض نماذجها ومنها عرس بهيج في القرية أو رحلة نيلية في مركب متلألئ الأضواء، أما هناك مع المجذومين والمنبوذين من أمثاله فلا متع ولا مباهج اللهم إلا تدخين سيجارة أو العثور على جهاز تسجيل في كوم القمامة أو بالتأكيد انتظار العدل الموعود في يوم الدين .
***
تحية لكل من أسهم في هذا الفيلم المؤلم البديع فكرة وسيناريو وموسيقى، تحية للمخرج أبو بكر شوقي الذي جعل الدفاع عن المجذومين قضيته فلازم عملَه الصدق ولعله يعيد تشكيل الوعي العام بالقضية، تحية لراضي جمال الذي عاش الدور ولم يمثله فأثبت أن المعاناة قادرة على تفجير الموهبة بتلقائية مدهشة، أما هذا الأوباما الصغير أو أحمد عبد الحافظ الذي ألان تقاطيعه المصرية الصميمة لكل مشاعر الأسى والحب والشقاوة فإنه كان رائعا .

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved