فى ذكرى ميلاده.. «بنك القلق» لتوفيق الحكيم!

إيهاب الملاح
إيهاب الملاح

آخر تحديث: الجمعة 11 أكتوبر 2019 - 11:15 م بتوقيت القاهرة

فى حلقة الأربعاء الأسبوع الماضى، من البرنامج الإذاعى «لدىّ أقوال أخرى» الذى يُبث على إذاعة «نجوم إف إم»، استضافنى الكاتب والإعلامى المعروف إبراهيم عيسى للحديث عن الرائد الأدبى العملاق توفيق الحكيم (1898ــ1987)؛ فى ذكرى ميلاده..
خلال الحلقة التى استغرقت ساعتين، قرأ عيسى مقطعًا من عمله الممتع المثير للجدل «بنك القلق»، ووجدتها فرصة طيبة للتذكير بواحدٍ من أهم وأجرأ أعماله، فى وقت كانت الرقابة على الأعمال الإبداعية ومراقبة الكتاب فى ذروتها!
فى عام 1966، قبيل هزيمة يونيو بعام واحد، خرج توفيق الحكيم على الناس بما أطلق عليه «مَسْرِواية» فى نصه المسمى «بنك القلق»، نقد فيها نقدًا حاسمًا ومباشرًا أجهزة الأمن، ووجه تحذيرًا مخلصًا للقيادة السياسية من أن غياب حرية المواطن، يقود إلى فقدان حرية الوطن، وهو ما حدث بعدها بشهور قليلة، للأسف.
«أدهم» بطل هذه المسرحية، فنان ومفكر متشرد عن مبدأ، سُجن من أجل أفكاره، وخرج ليواجه الإفلاس والضياع والفشل، بل حتى الجوع، ولكنه لم يتخل قط عن حلمه فى أن يقدم شيئا نافعا مفيدا للناس وللوطن. فى مواجهة عجزه، يُقبل أدهم على مشروع «بنك القلق»، وهو مشروع يقوم على فكرة نصف كوميدية نصف جادة؛ ذلك أن الناس جميعا قد استشرى بينهم القلق حتى صار وباء! وأصبحوا فى أمس الحاجة إلى مؤسسة عامة ترعى شئون قلقهم، وتحاول أن تدفع عنهم شرّه مقابل أتعاب يدفعونها لأصحاب المؤسسة!
يدير الحكيم ببراعة صراعًا دراميا يتسم بالتناقض فى كل شىء! من خلال حوار ذكى لماح، بين نظرتين مختلفتين للمرأة والمجتمع والفرد والعلاقة التى تربط بينهم جميعًا.
فى «بنك القلق»، جمع الحكيم جماليا، بين الشكل المسرحى والشكل الروائى فى عمل واحد نحت له مصطلح «مسرواية»، قدمها كنموذج للبحث عن قوالب جديدة يصب فيها فنه، وليخوض أرضا بكرا، ويقدم إسهاماته التجريبية بروح شابة، وإرادة لا تلين، رغم اقترابه من السبعين آنذاك!
بالمناسبة، فقد أثارت «بنك القلق» جدلا مرعبًا، ووصل الأمر إلى حد الحديث عن مشكلات قد يتعرض لها الحكيم، وتتعرض لها جريدة (الأهرام) التى نشرت هذا العمل كاملا على صفحاتها. لا أريد أن أحرق التفاصيل؛ سأنقل عن المرحوم محمد حسنين هيكل فى كتابه الشهير «وقائع تحقيق سياسى أمام المدعى الاشتراكى»، الذى سجل فيه شهادته للتاريخ عما جرى فى الكواليس، حين بدأ نشر هذا النص فى جريدة (الأهرام)، وهى جريدة النظام السياسى الناطقة بلسانه آنذاك.. كتب هيكل:
«نشرت الأهرام فى تلك الفترة لكبار كتابنا أعمالا نقدية بارزة منها «بنك القلق» لتوفيق الحكيم، وأتذكر أن الحكيم كتبها لغير النشر وأعطاها لى لكى أقرأها، وقلت له إننا سوف ننشرها، وأبدى انزعاجًا شديدًا، وقلت بالحرف «إذا كنت أنت وجدت الشجاعة لكى تكتب، فإن لدىّ الشجاعة لكى أنشر».
وحينما صدرت الحلقة الأولى من «بنك القلق»، احتجت أجهزة كثيرة فى تلك الفترة. وفوجئت أن الرئيس جمال عبدالناصر يدعونى إلى لقائه، ومعى نسخة مما كتبه توفيق الحكيم، لأنه كما قال لى لم يكن قد قرأه، ولكنه تلقى احتجاجات كثيرة عليه، وقد وصلت إلى مكتبه فعلا فوجدت هناك المرحوم المشير عبدالحكيم عامر الذى واجهنى من أول لحظة بغضبه الشديد مما نشرته الأهرام، وقلت له أمام الرئيس: «إننى أعتقد أن ما نشرناه يقع فى دائرة ما نعتقد أنه مسئوليتنا، وأنه لا يتعارض مع الأمن القومى».
وقال الرئيس عبدالناصر إنه يطلب منا نحن الاثنين أن ننتظر حتى يقرأ الحلقة بنفسه. وجلسنا ساكنين، ولكن الحديث بيننا بالإشارة ظل مستمرًا، فالمشير يشير برأسه مصرا على الاعتراض على النشر، وأنا أشير برأسى إلى ضرورة التأنى فى إصدار حكم، وبما يعنى أن الصحافة يجب أن تمارس دورها خصوصًا على هذا المستوى الفكرى. وطلب إلينا الرئيس أن نخرج حتى يستطيع أن يقرأ ما يقرؤه بهدوء، وخرجنا إلى صالون مجاور للمكتب، واتصلت المناقشة بيننا، ثم دخلنا عندما دعانا الرئيس بعد أن فرغ من القراءة، وقال إنه يرى استمرار النشر، وأضاف «إنه لا يستطيع أن يتصور أن توفيق الحكيم الذى نقد العصر الملكى فى يوميات نائب فى الأرياف لا يستطيع نقد العصر الثورى مهما كان الثمن». وحُسم الموضوع، واستمر النشر.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved