صارت له لحية طويلة

بسمة عبد العزيز
بسمة عبد العزيز

آخر تحديث: السبت 12 نوفمبر 2011 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

قابلته منذ ما يقرب من سنتين اثنتين فى هيئة مختلفة عما اعتدته عليها، نبتت له لحية خفيفة وصار حليق الرأس والشارب واكتسب بعض الكيلوجرامات، ابتسم ملوحاً وبادرنى قبل أن أمد يدى بأنه لم يعد يسلم على نساء، أخفيت فضولى تجاه المظهر الجديد والتصرف الذى لم أتوقعه، تبادلنا حديثاً سريعاً عن الأسرة والمعارف والأصدقاء ثم انصرف كل منا إلى مقصده.

 

خلال الأسابيع القليلة الماضية التقيته مرة أخرى فى الجوار وقد طالت لحيته لتصل إلى أعلى البطن، ازداد وزناً وامتلأ حتى لم أكد أعرفه. صار له سروال أسفل الجلباب القصير وطاقية بيضاء وخف، تجهمت ملامحه كثيراً مبتلعة الابتسامة السابقة.. صفعتنى حدقتاه للحظات قبل أن يشيح بوجهه دون كلمة واحدة ثم يمضى فى الطريق.

 

لا أدرى على وجه التحديد ما الذى بدل حال الصديق القديم بحال أخرى، ولا أدرى كنه المياه التى جرت فى السنتين الماضيتين، لكننى رحت أفكر أن ثورة قد وقعت ما بين لقاءينا، ثورة فصلت ما بين ملامح منبسطة وأخرى مقطبة، بين كلمات وضحكات ونبرات ودود، ثم صمت وعبوس وجفاء كبير. ثورة أظنها قد تركت أثرها علينا جميعاً، حررت البعض وقيدت البعض الآخر، أو فلنقل أنها قد أخذت تحرر الناس كل على طريقته وفى الاتجاه الذى يهواه، هناك مَن تَغَيَّرَ فى مظهره، ومَن تغيرت أفكاره وأفعاله دون المظهر، ومَن استطاع أن يقرن المظهر بالمضمون. أحدثت صدمة الثورة وتداعياتها تَغَيُّراً حقيقياً فى بعض الناس، وأزاحت حواجز الريبة والتوجس التى عششت فى أذهان البعض الآخر، وأسقطت دواعى التخفى والكمون، فبدأ كل شخص يقدم نفسه دون رتوش ودون اصطناع.

 

رأينا مَن اختار أن يُعلى صوت التحرر والتَخَلُّص مِن القيود، ومَن فضَّل أن يتمسك بها وأن يضيف إليها قيداً بعد قيد. هناك من أصبح أكثر رحابة وتَقَبُّلاً للناس كافة على تباينهم وتنوع مشاربهم، وهناك من بات أكثر إصراراً على اعتماد نموذج وحيد، انغلق عليه وأخذ يغالى فى التمسك به وينفى ما عداه ويحذف من يعارضه من القائمة.

 

<<< 

حين يسود الخوف والارتباك، قد يلجأ الناس تلقائياً إلى الشكل الأكثر تطرفاً على مختلف المستويات، ربما يأتى الخوف من الشعور بالضياع وسط طوفان الأفكار والاتجاهات السياسية والمصطلحات التى تعبر الأسماع والرءوس ليل نهار، أو هو الخوف من انهيار المرجعية والرمز، من أن يصبح المرء وحيداً دون أن تكون هناك قوة أكبر منه يلجأ إليها ويطمئن لوجودها، أو هو بمنتهى البساطة الخوف من القادم المجهول ومن ثم تفضيل الآنى المعلوم والتزيد فيه أياً ما كان محتواه. ليس الخوف فقط هو المنبت، فقد يلجأ الناس إلى اتخاذ الشكل الأكثر تطرفاً لمجرد الرغبة فى التمايز عن الآخرين، خاصة وأن هذا الشكل قد يكتسب هالة من القدسية، وبالتالى فإن الأفعال التى تنسب إليه تصبح ذات قيمة أكبر ووزن أكبر.

 

زيارة وحيدة كانت كافية لأن ألمس كم أن الأمر جَدِّى، وجه الصديق القديم تغير وعيناه الواسعتان صارتا حادتين وضاقتا كثيراً، أخته الوحيدة صارت تتكلم عن الممنوعات والمحرمات فقط وكذلك والدته، بينما اتخذ الوالد جانباً بعيداً، أما زوجته فلم أر من وجهها شيئاً، حتى عينيها اختفيتا وراء غلالة سوداء. أدركت فى نهاية الزيارة أنه لم يعد بيننا خيط واحد مشترك، ورغم المحاولات كلها أيقنت أخيراً أنه قد انتقل إلى الجانب المقابل، فهمت أنه صار واحداً من هؤلاء الذين قد يعتبروننى وغيرى من النساء عورة، يضعون قوانينهم الخاصة ويطلبون من الكل الالتزام التام بها، يحلِّلون ويحرِّمُون ويقررون الجزاء: الثواب والعقاب، وينفذونه. انتقل إلى جانب لا يرى من البشر إلا الأجساد، ولسوء الحظ صار الصديق القديم واحداً من هؤلاء الذين يلعنون ضروب الفن، حتى أنهم يعلنون التبرؤ من الإرث المُلهِم للحضارة المصرية القديمة وما تلاها من حضارات، تارة يرفضون وجود التماثيل الحجرية فيقومون بتغطيتها وحجبها عن الأنظار، وتارة يدعون لطمس ملامحها بالشمع، ويربطونها بالأحبال ويسقطونها أرضاً لأنها كفر، انتقل صديقى إلى هناك فى الوقت الذى انتقلت فيه أنا إلى الجانب المناقض، أمسكت بالأزميل منذ سنوات ووقفت فى صف النحاتين.

 

لم تفارقنى صورته الجديدة طيلة أيام شابتها الحسرة، بالأمس القريب كنا زملاء وأصدقاء، بالأمس القريب كنا نتشاحن ونتعارك ونتصالح عشرات المرات فى اليوم الواحد، الآن كف الكلام وانطوت الصفحة، كبرنا ويبدو أن معاركنا الصغيرة قد صارت هى الأخرى كبيرة وعصية على التجاوز، هل صرنا أعداءً؟.

 

<<< 

 

ربما نلتقى فى يوم قريب وجهاً لوجه، يدافع كل منا عما يؤمن به صواباً، لكننى أتمنى ألا ننسى فى ذاك اليوم أنّا كنا أصدقاءً، فحين يتكلم ذاك الصوت البغيض الخارج عن حدود المنطق والمعقول، وحين يحكم ويفصل بدعوى امتلاك الحق المطلق، تسقط أشياء كثيرة وتبقى نعرات متعصبة نتقاذفها فيما بيننا دون أن نتمكن من مد جسور التواصل أو إدارة أى حوار.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved