حالة «هكذا دواليك»

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: الأحد 11 نوفمبر 2012 - 8:20 ص بتوقيت القاهرة

كلام وسكوت وزحام.. وهو سارح فى الملكوت، فرغم عدد البشر من حوله تقتله الوحدة لدرجة السأم.. ضجيج خارجى يقابله فراغ داخلى عميق، لكنه متقطع، إذ تقطعه السلامات المتبادلة من حين لآخر.. تلك السلامات التى هى دليل الحياة حتى لو كانت لا تنم عن معرفة عميقة مع الأشخاص المارين على المقهى، فهى بالنسبة للبعض بصمة الوجود، أن تضغط على يد أحدهم ولا تحتاج أن تعرفه بنفسك هو أكبر دليل على أنك موجود وحى ترزق ولا يزال يتذكرك البعض، حتى لو لم تكن هناك فرصة أبدا لتوطيد العلاقات مع هؤلاء العابرين فى حياتك أو لم تكن لديك رغبة فعلية فى تحقيق ذلك.. مواطن القهوة قد يكون من الكائنات الليلية الوحيدة، لا تنقصه المعارف غالبا بل ينقصه الأصدقاء أحيانا.. وقد اختار أن يعيش وسط الناس لا بينهم، يشاهدهم من وراء الزجاج، كما يفعل فى القطار عندما يتحرك أمامه المشهد دون أن يتحرك هو.. رابض على كرسيه بالمقهى وقد حجز كرسى المتفرج الأبدى، «بكام كلمة فاضية وكام اصطلاح يفبرك حلول المشكلات قوام»، كما يقول أحمد فؤاد نجم.. يحلل الموقف بجدية صارمة دون أن يسمح لأحدهم بمقاطعته، فهو يأتى إلى المقهى خصيصا لكى يعبر عن رأيه، ألم يصف عالم الاجتماع الفرنسى ــ جوفر ديمازيديه ــ المقهى بأنه «صالون الفقير»؟ يأتى إلى المقهى ليتحدث مع آخرين قد لا يستطيع دعوتهم إلى منزله.. يحافظ على عادة شرب القهوة، لتصبح من الثوابت فى عالم متغير.

 

يقول البعض إنه بإمكانك سبر أغوار شخص ما إذا راقبته وهو يشرب القهوة.. الجو العام، جلسته، إصرار الشفتين على امتصاص عقب السيجارة.. طقوس وإشارات يضج بها عالم القهوة التى لم تعد مجرد مكان لاحتساء الشراب، بل تنوعت وظيفتها فأصبحت أحيانا مكانا لمتابعة مباريات كرة القدم أو نتائج الانتخابات أو التمتع بخدمة الإنترنت «وى فى» التى لم تكن متوافرة مع افتتاح أول مقهى فى القسطنطينية عام 1554.

 

حياة البعض إذا تسير على نمط «وهكذا دواليك» أى كرَات بعضها فى إثر بعض دون معنى حقيقى، عابرون فى كلام عابر.. يعيشون تضييعا للوقت، أى لحين انتهاء المدة.. مجرد جزء من مقتنيات المدينة.. منهمكون فى لعب الطاولة دون التساؤل: وماذا بعد؟ ماذا لو أغلقت القهوة بابها فى حوالى العاشرة أو بعد ذلك بقليل؟ ماذا لو ظلوا يرددون كلاما ويفعلون عسكه؟ دارت فى رأسى بعض هذه الأفكار مع المناقشات حول قانون إغلاق المحلات لترشيد الكهرباء.. وتوقفت عند حياة هؤلاء الذين كيفوا عالمهم داخل المقهى مع طقوس المراقبة والوحدة.. هم موجودون حولنا ويحدث أحيانا أن تتعرف على أحدهم فيعايشك لسنوات ثم ينصرف إلى عالمه مرة أخرى، لكن قطعا لا ينطبق الوصف السابق على كل من يجلسون على المقاهى والتى تحفل عادة بالندوات والمسامرات، أقصد هنا فقط فئة « هكذا دوليك».. قارنتهم بآخرين يصارعون الزمن والمرض لأن لديهم العديد من الأشياء التى يرغبون فى تنفيذها قبل أن تنتهى أيامهم.. ولن تنتهى.. لأن أحلامهم أكبر من أن يلتهمها  الموت.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved