الدولة تتحلل

إبراهيم عوض
إبراهيم عوض

آخر تحديث: الثلاثاء 11 ديسمبر 2012 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

 تعيش مصر منذ صدور الإعلان الدستورى المكمل فى الثانى والعشرين من نوفمبر الماضى مواجهات سياسية وفكرية، انتقلت من اتخاذ المواقف وتسجيلها، ومن المحاجاة بالأفكار والأسانيد، متفاوتة القوة أو التهافت، إلى الصدامات العنيفة والاقتتال بين المصريين. لم يعرف التاريخ الحديث والمعاصر لمصر مثل هذه الصراعات بين أبنائها، بل إن الدولة الحديثة التى أقامها المصريون منذ ما قبل منتصف الربع الثانى من القرن التاسع عشر، وبالرغم من كل أوجه قصورها، استطاعت أن تحفظ لمصر وحدة ترابها وللمصريين سبل التعايش وأساليب تسوية القضايا التى تجمعهم، أو تفرق بينهم، بشكل سلمى.

 

الصدامات والاقتتال نتيجة طبيعية، وإن كانت مؤسفة، لتحلل الدولة، والذى كان أبلغ دليل عليه هو انسحاب الشرطة أمام المتظاهرين المتجمعين أمام قصر رئاسة الجمهورية يوم 4 ديسمبر، ثم عدم تدخلها فى اليوم التالى للفض بين الطرفين المتصارعين حتى سقط من سقط قتيلا وجريحا. الحجة المستخدمة هى أن الشرطة لا تريد أن تتهم بأنها استخدمت القوة ضد المتظاهرين وتسببت فى إيذائهم. الواقع هو أن هذا عذر أقبح من ذنب. إن القوات التى تخاف اتهاما بإيقاع الأذى بالمواطنين، وهى تحاول دفعه عنهم، تنظر إلى نفسها على أنها فريق من الأفرقة المتصارعة، وهى تشك بالتالى فى جدارتها باستخدام العنف المشروع المعترف به للدولة. طالما شكت القوات المعتبرة شرطة بجدارتها باستخدام العنف المشروع، فإنها تكون بالفعل غير جديرة به، وهى بذلك تعترف ضمنيا بسلامة رفض قطاعات عريضة من المواطنين لشرعيتها، ولشرعية الوسائل التى تستخدمها. إن التقاعس، بعد فبراير 2011، عن إعادة هيكلة الشرطة وتغيير عقيدتها، بل واسمها وشكلها ورمزها، تدفعه الدولة الآن ضعفا وعجزا وشللا عن القيام بأولى وظائفها، وهى حماية النظام العام.

 

●●●

المفارقة هى أن من يفترض فيهم أنهم سيكونون أول المستفيدين من إعادة بناء سلطة الدولة ومن احتكارها لممارسة العنف المشروع، يشتركون هم أنفسهم فى إضعاف الدولة والثقة فيها. واحد من مستشارى رئيس الجمهورية، والقيادى بحزبه، صرح مثلا بأنه «إذا كانت أجهزة الدولة ضعيفة ومثخنة بجراح الفترة السابقة، فالشعب قادر على فرض إرادته وحماية الشرعية، وأعضاء الحزب سيكونون فى مقدمة الصفوف إن شاء الله». هذه بمثابة الخصخصة للوظيفة الأولى للدولة واغتصابا لها، ينطق بها مستشار رئيس الدولة، فكيف يمكن بعدها حث المواطنين على احترام الدولة والنظام العام فيها؟

 

والدولة تتحلل إن لم تمارس وظيفة بأهمية صياغة الدستور المؤسس لنظام سياسى جديد بالتوازن وبالتفكر وبالتؤدة الضرورية كلها. بعد انسحاب من انسحب من الجمعية التأسيسية، هل يعقل أن تسابق الجمعية الساعة وأن تجتمع لثمانى عشرة ساعة متواصلة لتمرير أحكام منها ما يعرض عليها لأول مرة، ثم لاعتماد مشروع الدستور برمته؟ ثم هل من المنطقى أن يمنح الشعب خمسة عشر يوما فقط لمناقشة أحكام هذا المشروع ولإقراره؟ يأخذنا هذا إلى العيوب الخلقية الأولى التى ضمنتها لجنة التعديلات الدستورية الشهيرة فى تعديلاتها، وهذا عيب لايقل أهمية عنه عدم النص على أغلبية مرجحة لاعتماد الدستور فى الاستفتاء، أغلبية مرجحة كان من شأنها أن تشجع الفرقاء على التلاقى والتوافق.

 

والدولة تتحلل لأن القضاء ثم السلك الدبلوماسى يرفضان الامتثال لتعليمات يعتبرانها غير شرعية، والشرعية وحدها هى ما يميز الدولة فى نظر المحكومين عن غيرها من هيئات تفرض الأوامر والتعليمات، وربما مارست القوة لتأمين تنفيذها.

 

والدولة تتحلل كذلك لأن مستشارى رئيس الجمهورية، ومنهم ذا التوجه السياسى الإسلامى، يستقيلون من مناصبهم الواحد تلو الآخر اعتراضا على طريقة التصدى للخلافات السياسية القائمة، ولغيبة أى معالجة جادة لها. الحقيقة هى، وللأسف، أنه بدلا من المعالجة، فإن طريقة التصدى للخلافات السياسية هى تأجيج لها. الكلمة التى وجهها رئيس الجمهورية للأمة كان فيها استخفاف بالصراع الدموى الخطير الذى هوى إليه المصريون. العرض بإمكانية إلغاء المادة السادسة من إعلان 22 نوفمبر لا أثر ملموس ولا أهمية له مطلقا، لأن للرئيس بالفعل حق إصدار أية قوانين يراها، فضلا على القرارات والإجراءات، بمقتضى ممارسته للسلطة التشريعية. كان يمكن أن يكون لما عرضه الرئيس معنى، حتى وإن لم يكن كافيا، لو أن عرضه شمل إلغاء المادة الثانية التى تحصن قراراته وقوانينه من كل طعن. والزعم بأنه لم يكن مقصودا بالتحصين حرمان المواطنين من الطعن على كل قوانين وقرارات الرئيس، بل فقط على تلك «السيادية» فيما بينها، مردود عليه بأكثر من رد. لماذا لم يقل الإعلان ذلك صراحة؟ وماذا إن أصدر الرئيس قرارا أو قانونا واعتبره قرارا أو قانونا «سياديا» يمتنع على القضاء الفصل فى دستوريته؟ تأجيج الخلافات، حتى وإن لم يكن مقصودا، زاد من انكشاف الدولة أمام من بتجاهلونها ويتحدونها، وأضاف إلى ضعفها ضعفا. رئيس الدولة كان المنتظر منه ترميم سلطة هذه الدولة فهذا هو أول واجباته، حتى وإن كان ثمن هذا الترميم جزءا كبيرا أو صغيرا من اقتناعاته الشخصية، السياسية والأيديولوجية.

 

والدولة تتحلل لأنها اقتصادها مأزوم، والأسعار ترتفع، والتضخم يزداد، والعملة الأجنبية تشح. كل ذلك لايؤخذ فى الاعتبار، بل تتخذ قرارات تقيم الدنيا ولا تقعدها فى عز الموسم السياحى فتتراجع الإيرادات من السياحة، وهى الإيرادات المعوَل عليها لتمويل الواردات الضرورية لغذاء المصريين ولدوران عجلة النشاط الاقتصادى. ماذا يحدث لو عجزت الدولة عن أن تؤمن للمصريين غذاءهم وللنشاط الاقتصادى المواد التى يحتاجها؟ أى احترام يمكن أن تطلبه هذه الدولة عندئذ من مواطنيها؟ 

 

●●●

 

توعد الرئيس بالحسم والحزم كل من يخرج على القانون، وليت هذا ممكن! كثرة الوعيد بدون فعل ملموسة نتيجته سيترتب عليه مزيد من تقويض الدولة وسلطتها. الخروج على القانون لم يقترفه الفريق المناصر لرئيس الجمهورية وحده. إحراق مقرات حزب الحرية والعدالة وجماعة الإخوان المسلمين هو خروج على القانون كذلك، حرى بزعماء المعارضة، خاصة قادة جبهة الإنقاذ الوطنى، تكرار التنديد به علانية وشخصيا، ووقفه إن استطاعوا إلى ذلك سبيلا. غير أنه يمكن الشك فى استطاعتهم ذلك، فالجماهير المصرية هى التى تحدد للزعماء طريقهم الآن. لذلك ربما كان من مصلحة الحكم الإسراع بالتفاهم مع زعماء المعارضة الحاليين فهم معروفون لديه وهم معتدلون ومعقولون فيما يطالبون به. الجماهير الثائرة، المكونة من شباب كله حيوية مخلوطة بالإحباط من ظروف حياته وعمله ومن مستوى معيشته، قد تجرف هؤلاء الزعماء وتفرز بدلا منهم قادة جدد يصعب أيما صعوبة التفاهم والوصول إلى حلول وسط معهم.

 

غير أن مسيرة التاريخ جدلية، الأزمة تفرز حلها، وفى التحلل ثنايا رتقه. المسئولية الكبرى فى إنقاذ الدولة وفى رتق تحللها تقع على رئيس الدولة. والجائزة الكبرى من هذا الرتق ستكون من نصيب الرئيس أيضا، فكما أن كل فشل سيسجل عليه، فإن كل نجاح سيحسب له. على رئيس الجمهورية أن يتباحث مع من يمكنهم فعلا التأثير فى الرأى العام وفى المتظاهرين فى ميادين وشوارع المدن المصرية، قبل فوات الآوان. عليه أن يصل معهم إلى حلول بشأن الدستور، حتى يكون الدستور قانونا أساسيا لمصر المستقبل، قانون يحمى الحقوق والحريات، ويكفل الممارسة الفعلية لها، ويساعدها على التصدى لقضايا الحاضر والمستقبل، ويعين أبناءها وبناتها على خوض الحياة فى عالم يتقدم بالمعرفة، وبالذكاء، وبالإرادة. لن يسجل على الرئيس تراجعه بل سيحسب له وقف تحلل الدولة المصرية وإعادة بناء سلطتها. وربما استغل الرئيس ضرورة تفكيك الصراع غير المسبوق الذى تعيشه مصر ليغير الحكومة وليعين بدلا منها تشكيلا وزاريا جديدا يجمع فيه سياسيين وكفاءات من اتجاهات سياسية مختلفة، تشكيل يعينه على وقف تحلل الدولة وعلى إعادة بنائها بناء تعدديا وديمقراطيا عتيدا. هل يمكن تصوُر رئيس مصرى يقبل بأن تتحلل الدولة بين يديه؟        

 

 

 

أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved