الانتفاضات فى مواجهة الفتنة

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الأربعاء 11 ديسمبر 2013 - 7:50 ص بتوقيت القاهرة

تجتاح الفوضى، وغالبا مسلحة، الأرض العربية مشرقاً ومغرباً، بطول المسافة بين اليمن وتونس، ويضيع «الثوار» عن أهدافهم فى بناء «الدولة» التى يطمحون إليها بديلاً من أنظمة الطغيان التى نجحوا فى إسقاطها أو أنهم مازالوا يجاهدون من دون أن تتوافر لهم صورة الدولة العتيدة التى يرغبون فى بنائها.

يتساقط القتلى بالعشرات، فى وتيرة يومية، فى اليمن المهددة دولتها بالسقوط فى دوامة الانفصال، وفى العراق الذى لم تنجح قياداته السياسية (والدينية) فى إعادة بناء الوحدة الوطنية التى كان قد صدعها حكم الطغيان ممثلاً فى صدام حسين ثم أجهز عليها الاحتلال الأمريكى، فى حين تلتهم المذابح والصدامات المسلحة فى سوريا بين النظام فيها الذى عجز عن استيعاب روح العصر وبين معارضيه الذين تجاوزوا شعبه ومطامحه فجاؤوا من كل ناحية، يريدون بناء «دولة الخلافة» بالعبوات الناسفة والمدافع وتكفير كل من لا يقبل «جاهليتهم الوافدة».

أما فى لبنان الذى يعانى نظامه السياسى من خلل بنيوى فاضح عبر محاولة ادعاء السبق إلى العصر فى التقدم الاجتماعى بينما أهل الطبقة السياسية فيه، حاكمين ومعارضين، يخوضون «معاركهم» التى تتسع للدول جميعاً بالسلاح الطوائفى الذى لا يمكن أن يبنى وطنا، والذى يبقى «دولته» معرضة دائماً للارتجاج بما يفتح الباب واسعاً أمام تدخل «الخارج» الذى كثيراً ما انتخب له رؤساءه وعين حكوماته وحتى نوابه «ممثلى الأمة».

فإذا ما انتقلنا إلى الضفة الأفريقية للوطن العربى فلابد أن نتوقف أمام الانجاز الاستثنائى الذى حققه الشعب المصرى عبر ثورتين شعبيتين على الطغيان، مع مرحلة انتقالية شهدت السقوط الذريع للإخوان المسلمين الذين يسرت لهم المصادفات التاريخية أن يقفزوا إلى سدة السلطة فلم يعرفوا كيف يسوسون الحكم فخلعهم، وها هى مصر تعيش مرحلة انتقالية تمهد لإعادة بناء الدولة بما يتوافق مع مطالب الملايين التى ملأت الميادين، مرة وثانية وثالثة، والتى تنتظر الآن انجاز الدستور العصرى والذى يحفظ ريادة مصر فى بناء «الدولة»، ويحقق طموح شعبها إلى التقدم ويصلب وحدته الوطنية ممهداً لعودة مصر إلى لعب دورها القيادى فى منطقتها العربية.

•••

ولقد استقبلت بيروت، خلال الأيام القليلة الماضية، الكاتب المصرى الكبير محمد حسنين هيكل، فاتسعت معه مساحة الحوار حول الوضع فى مصر وآفاق تطوره وصيغة استقرار الدولة التى يعاد بناؤها فى مناخ الثورة التى لما تغادر الميادين تماما، ومواقع القوى الجديدة والجيش والتيارات الإسلامية المعتدلة فيها، خصوصاً بعدما ميزت موقفها عن «الإخوان» رافضة طروحاتهم الانقلابية.

ومع أن الأستاذ هيكل لم يشفِ غليل أصحاب الأسئلة، لاسيما منهم أولئك القلقون على مصر ودورها مستقبلاً خصوصاً وأنهم يتطلعون إليها كصاحبة الحق الشرعى فى القيادة، عربياً، بل حصر إجاباته فى التأكيد على «مدنية الدولة» وعلى أن الجيش لا يطلب السلطة وصولاً إلى أن الفريق أول عبد الفتاح السيسى لا يسعى إلى الرئاسة ولا يريدها بل هو يعمل من ضمن قيادة الحكم المؤقتة من اجل انجاز صيغة الحكم فى الدولة الديمقراطية التى استولدتها الثورة بدستورها الجديد وبمؤسساتها التى سوف تنتخب فى المواعيد التى حددها الدستور المؤقت.

تواترت الأسئلة فشملت الاقتصاد والإدارة والأوضاع المالية والعلاقة مع الإدارة الأمريكية (واستطراداً الاتفاقات التى سبق عقدها مع العدو الإسرائيلى فى ظروف ملتبسة)، وصولاً إلى العلاقات مع دول الخليج العربى، ومع السعودية على وجه الخصوص، لاسيما وقد سارعت هذه الدول إلى تقديم مساعدات وقروض سخية إلى الحكم الجديد فى مصر.. وهو أمر غير مألوف، ومن الطبيعى أن يثير العديد من أسئلة القلق مع التخمين حول الهدف من هذا السخاء.

ومع حرص الأستاذ الكبير على عدم التوغل فى استكشاف النوايا السعودية خصوصاً والخليجية عموماً الكامنة وراء هذا التصرف، إلا أن شبح «إيران» قد حام فوق جلسات الأسئلة المفتوحة على استقراء النوايا..

وكان طبيعيا أن يعاود الجميع قراءة خريطة التحولات فى المنطقة لاسيما بعد التفاهم الذى تم التوصل إليها بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية (حتى لا ننسى المكالمة الهاتفية المباغتة بين الرئيس الأمريكى اوباما والرئيس الإيرانى الشيخ حسن روحانى على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، ثم الاتفاق الذى أعلن عن التوصل إليه حول «النووى» بين إيران ودول 5+1 فى الأيام القليلة الماضية، والذى لا بد أن يكون له ما بعده.

•••

بعيدا عن مناقشات الأستاذ هيكل اللبنانية، فلا بد من ملاحظة التطورات المتسارعة على صعيد العلاقات بين إيران ودول مجلس التعاون الخليجى: فلقد توالت زيارات مسئولين خليجيين إلى طهران، ثم جال وزير خارجية إيران على عدد من هذه الدول، وسادت لغة جديدة فى الحديث عن مستقبل التعاون بين «الجيران» بعدما كانت تظلل أجواء العلاقات بينها غيوم التهديدات واللهجة شبه الحربية.

وتبدى واضحاً أن ثمة تباينات فى ما بين الخليجيين أنفسهم، وعلى وجه التحديد بين السعودية من جهة وعدد من الدول الخليجية، بينها الكويت وقطر والإمارات، فى حين اندفعت سلطنة عمان إلى إعلان اعتراضها على النهج المعتمد فى تلقف «المبادرة الإيرانية» لمحاولة تطبيع العلاقات مع عرب الجزيرة والخليج وتجاوز المناخ المأزوم الذى كان يفسح فى المجال لتدخل الدول الأجنبية من اجل الحفاظ على سوق السلاح.

وسرعان ما اتخذت الأزمة طريقها إلى العلن عبر مواقف رسمية، أكثرها صراحة ما أعلنه وزير خارجية عمان، الذى نادراً ما يجهر بآرائه، فى منتدى الأمن الإقليمى الذى انعقد فى البحرين، عشية دور الانعقاد العادى لقمة مجلس التعاون الخليجى التى افتتحت أعمالها يوم أمس الثلاثاء.

ما لم يقله وزير خارجية عمان وإن كان يتردد فى المحافل العربية عموماً أن ثمة أطرافا متضررة من أية تسوية أو تهدئة للعلاقات التى شهدت توترا حادا بين إيران والخليجيين بقيادة السعودية، لاسيما أن هذا التوتر قد شهد فى تجلياته العلنية احتداما سياسيا سرعان ما أعطى ابعاداً طائفية بل مذهبية.

•••

والحقيقة أن المشرق العربى يشهد منذ سنوات صراعاً سياسياً سرعان ما اتخذ تجليات ومواجهات شبه عسكرية بالواسطة بين إيران وبين السعودية على وجه الخصوص على «جبهات» العراق وسوريا ولبنان، وان بقيت الذروة ممثلة فى الحرب على سوريا وفيها بكل التداعيات الدموية التى بلغت أحد تجلياتها فى الهجوم الانتحارى على السفارة الإيرانية فى بيروت.. ومع أن طهران سارعت، ومنذ اللحظة الأولى، إلى اتهام إسرائيل بتدبيره والإشراف على تنفيذه، إلا أن أطرافا سياسية لبنانية أبرزها «حزب الله» قد وجه اتهاماً مباشراً إلى السعودية بتدبير هذا التفجير والإشراف على تنفيذه، معتبراً انه جزء من مخطط لإشعال فتنة سنية-شيعية يمكن أن تطول نيرانها المنطقة جميعاً. واضح أن الصراع سياسى أساسا، لكن دمغه بالطابع الطائفى أو المذهبى يستهدف استنهاض «السنة» جميعا لمواجهة «خطر الاجتياح الإيرانى» متستراً تحت الشعار «الشيعى».

وواضح أيضا أن الانعطافة الأمريكية ممثلة بفتح باب الحوار المباشر مع إيران قد استفز السعودية وأثار غضبها، ولم تنفع فى تهدئته زيارة وزير الخارجية الأمريكى، مما استدعى اتصالاً مباشراً من الرئيس الأمريكى اوباما مع ملك السعودية عبدالله بن عبدالعزيز.

على وقع هذه التطورات جميعاً لا بد من إعادة قراءة المخاطر التى تتهدد الانتفاضات الشعبية التى تفجرت فى معظم أنحاء الوطن العربى مشرقاً ومغرباً.. فالفتنة تنذر بالتهام الثورة، وتأخذ الناس بعيدا عن مطامحهم وعن همومهم الفعلية لتذروهم مع الريح، وتجهض الانتفاضات الرائعة التى بشرت بانبلاج فجر الغد الموعود.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved