الإحباط باسم عبثية الربيع والخريف والشتاء
علي محمد فخرو
آخر تحديث:
الأربعاء 11 ديسمبر 2019 - 9:20 م
بتوقيت القاهرة
يحار الإنسان أمام بعض مواقف قلّة من الكتاب والمثقفين العرب تجاه ما حدث فى بلاد العرب عبر السنوات العشر الأخيرة. فمواقف التشكيك والاتهام والتجريح، وبالتالى الدّفع المتواصل نحو اليأس والقنوط، تجاه حراكات وانتفاضات جماهير الشعوب العربية فى شتّى أقطار الوطن العربى تطرح الكثير من الأسئلة المحتارة فى ذلك المشهد.
لنأخذ أولا مثال الاختلافات حول تسمية ظاهرة الانتفاضات الجماهيرية المليونية العربية، بكل تجلّياتها وألوانها الأيديولوجية وأحجامها المختلفة وتلاوين قياداتها. فالبعض يسخر من تسميتها بالربيع العربى ويشير باستخفاف إلى أن بعضها كان شتاء عربيا والبعض الآخر يقول بأنها كان خريفا.
فهل حقا أن التسمية هى بتلك الأهمية؟
فليس من شك بأن بعض الانتفاضات تميزت بهبوب نسائم نشدان الحرية وتفتّح زهور الشعارات السياسية الفكرية الواضحة وبزوغ شمس ديمقراطية أكثر ضياء وأحسن تألقا.
لكن ليس من شكٍّ أيضا بأن بعضها كان شتويا عاصفا، مليئا بالرّعد والبرق والفيضانات المدمرة. وبعضها تميّز بتساقط أوراقه الخريفية المذهلة.
إزاء تلك الفروقات الطبيعية فيما بين الانتفاضات العربية، ألا تشير تلك النقاشات المستمرة المملّة حول التسمية إلى عبثية كلامية ومماحكات لغوية لا تقدُم ولا تؤخّر؟
لنأخذ ثانيا الجدل حول ما إذا كان الذى حدث كان ثورات أم انتفاضات أم حراكات. أليس ما حدث فى كثير من مجتمعات العرب، صعودا وهبوطا، نجاحا وانتكاسا، مؤقتا أو مستمرا، شمل فى مختلف مراحل مسيرته أحيانا صفة الثورة وأحيانا صفة الانتفاضة وأحيانا الحراك؟ بل أكثر من ذلك، هل يحقُ لنا أن نتجاهل دماء المنتفضين التى سالت، وموت الألوف الذين ضحُّوا، والملايين الذين هُجّروا، عندما يتجرّأ البعض على وصف ما حدث بالخرافات، أو العبث، أو المغامرات؟
لنأخذ ثالثا، إصرار البعض على اعتبار أن كل ما حدث (لاحظ كل ما حدث) كان بوحى من الخارج، وعلى الأخص بوحى من بعض الدوائر الاستعمارية والاستخباراتية الأمريكية. يستطيع الإنسان أن يتفهم ويقبل بأن بعض ما حدث فى أرض العرب كان بوحى، أو بتخطيط مسبق أو بتآمر استخباراتى من قبل أمريكا أو الكيان الصهيونى، أو حتى من بعض دول الإقليم. وهذا بالطبع ابتليت به كل الحراكات الجماهيرية الثورية فى العالم كله، وليس خاصية عربية معيبة، فالقوى الاستعمارية الاستغلالية لا يمكن أن تتعايش مع نسائم الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية.
ولكن هذا شيء وشيء آخر أن يتمّ من قبل البعض نكران المشاعر والغضب والجهود والتنظيمات والتضحيات الذاتية العربية، وعلى الأخص ما فجّره شباب وشابات الأمة العربية من مشاهد نضالية سياسية أبهرت العالم كله.. إن ذلك النكران ليس فقط أنّه يعبّر عن اتهام باطل ظالم حقير، وإنما هو قمّة الكذب المتآمر على كل الحياة السياسية النضالية الديمقراطية العربية، حاضرا ومستقبلا.
رابعا، لا يكتفى بعض هؤلاء بتلك الحملة الظالمة على أحلام وطموحات شباب هذه الأمة، فيضيفون إليها حملة علاقات عامة تنادى بمصالحة وتطبيع مع الكيان الاستعمارى الاحتلالى الصهيونى، الذى يحتل أكثر من ثمانين فى المائة من فلسطين العربية ويرفض رجوع الملايين من سكانها العرب لبيوتهم وقراهم التى عاشوا فيها عبر الألوف من السنين، والذى يقتل ويسجن ويُعذِّب ويُهجِّر كل من يقف فى وجه ممارساته اللا إنسانية. لكأنّ هؤلاء يريدونها تآمرا على كل قضية شعبية قومية وانهزاما أمام كل طاغية ومجرم فى الخارج والداخل.
خامسا، وفى الوقت الذى يفعل هؤلاء كل ذلك بكل جهد تبذله أمتهم للتحرر من كوابيس التدخّلات الأجنبية لتمزيقها وتجزئتها، ومن الفساد واللا مساواة والطائفية المذهبية السياسية، ومن التخلّف الحضارى، فإنهم يقفون ضد وحدة أمتهم وانتقالها إلى الديمقراطية العادلة.
نحن أمام محنة أخلاقية ضميرية فكرية. تلك القلّة من الكتاب والمثقفين لا يتركون فرصة أو منبرا إعلاميا أو اجتماعا عاما إلا ويستعملونها لحملات الاستهزاء والتثبيط، وخلط الأوراق ونبش التاريخ، وإثارة الجنون الطائفى ومظالم الأقليّات، حتى تبقى الأجيال العربية، جيلا بعد جيل، فى جحيم المشاعر والأفكار والطموحات المتناقضة المبهمة غير القادرة على تغيير الواقع.
المطلوب هو ألا يسكت الكتاب والمثقفون العرب، المتعاطفون مع طموحات أمتهم فى الوحدة والتحرر والعدالة والتمدن واللحاق بالآخرين، لا يسكتون عن مقاومة تلك الحملات الظالمة التى لا تهدأ ولا تخجل.
مفكر عربى من البحرين