جَريمة بَطاطا

بسمة عبد العزيز
بسمة عبد العزيز

آخر تحديث: الجمعة 11 ديسمبر 2020 - 7:55 م بتوقيت القاهرة

على ناصية الشارع اعتاد البائِع الشاب أن يقفَ بعربتِه الخشبيةِ ذات الفرن التقليديّ، ومعه حبّات البطاطا. يتوافد عليه زبائنٌ كُثر، يجدون في بضاعته ما ينشدون؛ خُصوصية المذاق، وسهولة الهضمِ، ومتعة الدفءِ مع لسعاتِ البرد المسائية.
***
لا يطلب الشابُ مُقابلًا مُحددًا. يترك الأمرَ لتقديرِ العابرين؛ منهم مَن يُعطيه بقدر ما أخذ، ومنهم مَن يُزيد ويُغدق قاصدًا الدعمَ والتشجيع.
***
مَوَاعيده ثابتة. لا يقفُ نهارًا أبدًا؛ بل يبدأ إعدادَ أدواتِه قُربَ مَغيب الشمس، ويسهر معظمَ الأوقات لما بعد منتصَف الليل. ينفد مَخزونُه أحيانًا؛ فيرحل قبل موعده، لكنه في العادةِ مَوجود، تقفُ بمُحاذاتِه السياراتُ التي يهفو أصحابُها لأكلةٍ تسد الجُوعَ ولا تكلِّف الكثير، يتناولونها على الأغلبِ في مُحيطه، وبعضهم يصطحبُ كميةً أكبر في طريقه؛ ربما لأهلِ البيت.
***
اختفى بائعُ البطاطا في الفترة الماضية من المكان. سأل عنه زبائنُه الدائمين؛ لكن أحدًا لم يهتدِ لإجابةٍ واضحة. قال صبيٌّ صغير يشوي الذرةَ ويقف بعربتِه في المَنطقةِ ذاتها، إن البائعَ رحل إلى بلدته. لم يعرف السائلون وأنا منهم سببَ مُغادرته. تبرع كلٌّ بما خطرَ له؛ انتهى نصيبُه من مَحصول البطاطا هذا المَوسم، غيَّر نشاطَه واستبدلَ به آخر أكثرَ إدرارًا للربح، ذهب يبحث عن مكانٍ جديد يشتاق سكانُه للبطاطا وليس فيه مُنافسون؟
***
بعد أسبوعين تقريبًا ظهر البائعُ الشاب مِن جديد؛ هذه المرة دون الفرن. وقفَ في مكانه نفسه وبصحبته كيزان الذرة؛ تستقر على سطحِ الفحم في انتظار مُريديها، بينما البطاطا لا أثر لها ولا رائحة.
***
دارت الأسئلةُ دورتها في فُضول، ولم يقُل البائعُ سوى إنه كان بالفعلِ في بلدتِه لظروفٍ ألمَّت به. أخيرًا؛ أخبر بعضَ الزبائنِ القدامى أنه كان محبوسًا: "أخذوني في النقطة يومين".
***
تبين أن ساكنًا من سُكان البنايةِ الضخمةِ التي تقع على الجهة المُقابلة؛ لم ترقه وقفةُ البائع، ولم يعجبه مظهرُ العربةِ المتواضع، ولا أحبَّ رائحةَ البطاطا المشوية. قرر أن يتصرفَ بإيجابيةٍ؛ فتوجَّه إلى قسمِ الشُرطةِ القريب، وحرَّر محضرًا بما أزعجه، وطلب مِن المسئولين التصرُّف حيال الأزمة . لم يُدرك البائع طبيعةَ الشكوى المُوجَّهة ضده، ولا عرِف فحوى المَحضر على وجهِ التحديد؛ إنما وجد نفسَه في غَمضةِ عَين مقبوضا عليه. ذكر مما علق برأسِه اتهامات مُتنوعة مِن بينها؛ إشغال الطريقِ العام، وتلويث البيئة بالأدخنة المُتصاعِدة.
***
بين البائع وزبائه ودٌّ وأُلفة؛ كان هشَّ الطلَّة، رقيقَ الحديث، رضاؤه بادٍ بلا تكلُّف ولا اصطناع. تدخَّل بعضُهم وله مِن الحيثية ما يُؤخذ في الحسبان، وطلبَ الإفراجَ عن الشاب وقد حدث. خرج مِن القسم وإن مُحمَّلًا بتعليماتٍ صارمةٍ وتحذيرات؛ ما مِن داعٍ للبطاطا، يُحبَّذ تغيير المكان، لا احتكاك بساكنٍ .
***
الحالُ الآن مُستتبةٌ؛ لم يتقدم الشاكي بشكوى أخرى؛ وقد أرضَته الاستجابةُ فيما يبدو وأسعده انتقالُ البائع بعيدًا عن بنايته. تراجَعت مُعدَّلات التلوث التي استشعرها، وتوارى عن عينيه قُبح العربة؛ أما الزبائن فلا يزال كثيرهم على العهد؛ يقصدون الناصيةَ ويبتاعون ما يُقدم لهم البائع وما تجود به تبعًا للظروف العربةُ؛ كيزانَ الذرة الحلوةِ مَرة، حباتِ البطاطا الساخنةِ في مرة أخرى، قرون الفول الأخضر الطازجة ما آن أوانُها، وأحيانًا لا يكون سوى السلام والسؤال عن الصِحة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved