للمفردات تاريخ للموت

خولة مطر
خولة مطر

آخر تحديث: الأحد 12 يناير 2020 - 9:55 م بتوقيت القاهرة

للمفردات حياة ولكل حياة لمفردة معنى، لا يمكن أن يدرك الفرد منا معنى ذلك إلا ربما عندما يعيش أكثر من زمن ويعبر بحورا عميقة وأمواجا متلاطمة فى سرعة لا يدركها إلا عندما يكون قد سبقه الزمن أحيانا أو رمته الموجة عند حافة الشاطئ.
***
كثير من المفردات تتداول اليوم بمعانى عفا عليها الزمن، أى أنها عتقة فكان الواجب أن نعير التفكير ونضع مفاهيم جديدة لها تتماشى مع زمن ما بعد الأخلاق والقيم، ألا يمكن أن يكون هناك زمن كهذا؟ أليس هناك زمن الحضارات وزمن آخر للعولمة وثالث يفضل البعض تسميته بالزمن الجميل، مختصرين كثيرا من المعانى التى تبدأ بالحب والمحبة والود ولا تنتهى عند الوفاء والإخلاص.
***
مثلا، كان للخيانة معنى وهى خيانة الحبيب لحبيبته، ثم تطورت لتصبح خيانة الأمانة أو خيانة العهد ووو.. من بين كل الأصدقاء كان هو المتربص لمن ينطق بكلمة خيانة عند ربطها للعلاقة بين اثنين، زوجين، ويردد لا يوجد شيء اسمه خيانة.. ويعلق بأن القلب يتسع لأكثر من شخص، إذن فالأئمة على القلوب متعددة الغرف وليس البعد الأخلاقى للمفهوم.. وكان النقاش يسخن وتعلو الأصوات وينقسم الجالسون، فالرجال يعجبون بتفسيرات صاحبهم للخيانة ورفضه لهذه المفردة، بل أعتقد أنه فى إحدى المرات قال علينا حذفها من المختار الصحاح وكل القواميس وبكل اللغات، وتوقف قليلا فتلك كانت المرحلة المشبعة بالأفكار السياسية ومحبة الوطن.. حينها فكر قليلا وردد ربما تبقى «الخيانة» لتكون مرتبطة فقط بخيانة الوطن لا غير فهذه فعلا خيانة.. وتشعب فى تفسيراتها حتى لو رددناهم اليوم لوجدنا أن كم من خائنى الوطن قد أصبح هو الأكبر وقل عدد المخلصين له، المحبين المضحين.
***
«فاست فورود» كما يقولون أى نعود بسرعة للآن، لهذه اللحظة فتختفى الكلمة بالفعل، ما أراد صديقنا أن يحققه لوحده حققه الكثيرون دون أن يدروا أو ربما «مع سبق الإصرار والترصد» أعادوا كلمة خيانة وأبعدوها عن الخيانة فى الحب والعلاقات الزوجية، خاصة وأنه قد أصبح هذا هو النمط السائد، أما القلة فهى التى لا تزال باقية كما يقولون على العشرة ربما أو بقايا حب.. وكثرة مفاهيم الخيانة وتعددت بتطور الأزمان والبشر وصولا إلى آخر نقطة فى مقاييس الانحطاط الأخلاقى.
***
الخيانة كسبت مفاهيم حداثية، نيوليبرالية متلاصقة مع «الانفتاح» والاقتصاد الحر أو اقتصاد السوق أو هى بلغة رجل الشارع «شيلنى واشيلك» و«كله يبرر كله» أى ترجمة للغاية تبرر الوسيلة وأيضا وهذا مهم جدا «أنا ومن بعدى الطوفان» حتى لو جرف الطوفان أحبتى وعائلتى وأصدقائى ورفاقى فى العمل وحتى أرضى التى أعشق.
***
بعضنا لا يزال بتلك العقلية التى يسميها البعض «متحجرة» أو خارجة عن هذا الزمن.. بعضنا لا يزال يتصور أن الوفاء هو أهم صفات للبشر والعطاء أيضا دون مقابل.. هى من تلك العينة المنقرضة كالديناصورات والتى ستتحول بعد فترة إلى مادة مهمة فى صندوق زجاجى فى أحد المتاحف.. تصطف كما المصاحف القديمة وكتب الأديان والتاريخ.. هى تصورت أن العطاء لا يمكن إلا أن يعود بالخير، لم تكن تنتظر أن يرد الجميل بجميل أكبر منه بل ببعض من الوفاء فصدمت بقلة أو انعدام الوفاء بل والاحترام أيضا.. لأن كثرة العطاء فى زمن «الأنا» هى بعض من الغباء أو الهبل.. لم تدرك إلا عندما تحول أكثر من منحتهم كثير من وقتها وأعصابها لكى لا يضيع حقهم أصبحوا كما «علمته الرماية فلما اشتد ساعده رمانى» فكانت هى الفريسة الأولى لرحلة التسلق على الاكتاف و«بوس الأيادى».
***
عادة الخيانة إلى الواجهة بمفهوم أكبر من مجرد خيانة الحبيب أو الوطن لتصبح أكثر تماشيا مع أخلاقيات زمن اللا أخلاق.. الخيانة كما كثير من المفردات الأخرى بحاجة إلى إعادة نظر وإضافات كثيرة.. رغم أن خيانة الوطن قد أصبحت وجهة نظر فقط!!!

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved